الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أثر اختلاف القراء في مواضع الوقف والابتداء على اختلاف التفسير

أثر اختلاف القراء في مواضع الوقف والابتداء على اختلاف التفسير

أثر اختلاف القراء في مواضع الوقف والابتداء على اختلاف التفسير

* أهمية معرفة مواضع الوقف والابتداء

الوقف والابتداء باب مهم جداً، يجب على قارئ القرآن الكريم أن يهتم به، إذ هو دليل علي فقهه وبصيرته؛ لأن القارئ قد يقف أحياناً علي ما يخل بالمعنى، وهو لا يدري، أو يبتدئ بما لا ينبغي الابتداء به. فإن كان ذا بصيرة، فإنه لن يقف إلا على ما يتم به المعنى، إلا إذا اضطر إلى الوقوف، فإن عليه حينئذٍ أن يرجع إلى موضع يجوز الابتداء منه، فيستأنف قراءته بادئاً به، ومنتهياً بجملة تفيد معنى يجوز الوقوف عليه. ومثل ذلك أيضاً يقال في الابتداء. والهدف من وراء ذلك كله هو عدم الإخلال بنظم القرآن، ولا بما اشتمل عليه من معان.

ومواضع الوقف والابتداء مرتبطة بالقراء أصحاب القراءات؛ لأنهم هم الذين قاموا بتحديد هذه المواضع، ومعهم غيرهم من أهل الفقه والبصيرة بالقرآن. ويضاف إلي ذلك أن مواضع الوقف والابتداء قد تتأثر باختلاف القراءات، فما يكون من الوقف تاماً على قراءة، قد لا يكون كذلك على قراءة أخرى.

* تعريف الوقف والابتداء

الوقف: هو قطع النطق عن آخر الكلمة. والابتداء: هو الشروع في الكلام بعد قَطْعٍ، أو وَقْفٍ.

* علاقة الوقف والابتداء بالمعنى والتفسير

الذي ينبغي علمه أن كلًّا من التفسير والوقف والابتداء مرتبط بالآخر، وهذه الحقيقة نتصورها أحياناً في القراءة الواحدة، وأحياناً في القراءات المختلفة؛ قال السيوطي (ت911هـ) مقرراً هذه الأخيرة: "الوقف قد يكون تاماً على قراءة غير تام على أخرى...والوقف يكون تاماً علي تفسير وإعراب، غير تام علي تفسير وإعراب آخر. ومثال هذا: الوقف على {لا ريب} (البقرة:2) فإنه يكون تامًّا إن جعلنا {فيه هدى} (البقرة:2) مبتدأً وخبراً، وهو اتجاه نافع وعاصم، ولو جعلنا الجار والمجرور {فيه} متعلقاً بـ {لا ريب} فالوقف يكون على {لا ريب فيه} ويستأنف بعد ذلك بـ {هدى للمتقين} أي: هو هدى، فعلى الأول الوقف تام على قول أصحاب الوقف، وعلي المعنى الثاني الوقف كاف.

قال الصفاقسي (ت1118هـ) مبيناً أهمية معرفة الوقف والابتداء للوقوف على المراد من كلام الله: "ومعرفة الوقف والابتداء متأكد غاية التأكيد؛ إذ لا يتبين معنى كلام الله، ويتم على أكمل وجه إلا بذلك، فربما قارئ يقرأ، ويقف قبل تمام المعنى، فلا يفهم هو ما يقرأ، ومن يسمعه كذلك، ويفوت بسبب ذلك ما لأجله يقرأ كتاب الله تعالى، ولا يظهر مع ذلك وجه الإعجاز، بل ربما يُفهم من ذلك غير المعنى المراد، وهذا فساد عظيم، ولهذا اعتنى بعلمه وتعليمه، والعمل به المتقدمون والمتأخرون، وألفوا فيه من الدواوين ما لا يعد كثرة، ومن لا يلتفت لهذا، ويقف أين شاء، فقد خرق الإجماع، وحاد عن إتقان القراءة وتمام التجويد".

وقال السخاوي (ت902هـ) في تأكيد ذلك: "في معرفة الوقف والابتداء الذي دونه العلماء تبيين معاني القرآن العظيم، وتعريف مقاصده، وإظهار فوائده، وبه يتهيأ الغوص علي درره وفرائده. وقد اختار العلماء، وأئمة القراء تبيين معاني كلام الله تعالى، وجعلوا الوقف منبهاً على المعنى، ومفصلاً بعضه عن بعض، وبذلك تلذ التلاوة، ويحصل الفهم والدراية، ويتضح منهاج الهداية".

* من الآثار الدالة علي وجوب معرفة الوقف والابتداء

1- حديث الخطيب الذي خطب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: (من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما) ثم وقف على (يعصهما) ثم قال: (فقد غوي)، هنا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (بئس الخطيب أنت) رواه مسلم. وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لقبح لفظه في وقفه؛ إذ خلط الإيمان بالكفر في إيجاب الرشد لهما، وكان حقه أن يقول واصلاً: (ومن يعصهما فقد غوي) أو يقف على (فقد رشد) ثم يستأنف بعد ذلك (ومن يعصهما...). فهذا دليل واضح علي وجوب مراعاة محل الوقف.

2- روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: لقد غشينا برهة من دهرنا، وإن أحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على النبي صلي الله عليه وسلم، فنتعلم حلالها وحرامها، وأمرها وزجرها، وما ينبغي أن يوقف عنده منها.

3- وقال علي رضي الله عنه لما سئل عن قوله تعالى: {ورتل القرآن ترتيلا} (المزمل:4) قال: الترتيل معرفة الوقوف، وتجويد الحروف. قال ابن الجزري: "في كلام علي رضي الله عنه دليل علي وجوب تعلم الوقف والابتداء ومعرفته. وفي كلام ابن عمر برهان على أن تعلمه إجماع من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وصح بل تواتر عندنا تعلمه، والاعتناء به من السلف الصالح، وفي مقدمتهم القراء العشرة، وغيرهم من الأئمة، وكلامهم في ذلك معروف، ونصوصهم عليه مشهورة في الكتب، ومن ثم اشترطه كثير من أئمة الخلف على المجيز أن لا يجيز أحداً إلا بعد معرفته الوقف والابتداء، وكان أئمتنا يوقفوننا عند كل حرف، ويشيرون إلينا فيه بالأصابع، سنةً أخذوها كذلك عن شيوخهم الأولين".

4- روي أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان إذا دخل شهر رمضان، قام أول ليلة منه خلف الإمام، يريد أن يشهد افتتاح القرآن، فإذا ختم أتاه أيضاً ليشهد ختمه، فقرأ الإمام قوله تعالى: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} (البقرة:11) ثم توقف عن القراءة، وركع، فعابه عمر، وقال: (قطعت قبل تمام القصة)؛ إذ كان ينبغي عليه أن يكمل الآية التي بعدها؛ إذ فيها رد القرآن على دعواهم هذه، وهو قوله سبحانه: {ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} (البقرة:12).

5- حديث أُبيِّ بن كعب رضي الله عنه، قال: أتينا رسول الله صلي الله عليه وسلم، فقال: (إن المَلك كان معي، فقال: اقرأ القرآن، فعدَّ حتي بلغ سبعة أحرف، فقال: ليس منها إلا شاف كاف، ما لم تختم آية عذاب برحمة، أو تختم رحمة بعذاب) رواه أبو داود، وصححه الشيخ الألباني. قال أبو عمرو الداني (ت444هـ): "هذا تعليم التمام من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام؛ إذ ظاهره دالٌّ على أنه ينبغي أن تُقْطَعَ الآية التي فيها ذكر النار والعقاب، وتُفْصَلَ مما بعدها، إذا كان بعدها ذكر الجنة والثواب، والأمر كذلك أيضاً إذا كانت الآية فيها ذكر الجنة والنار، بأن يفصل الموضع الأول عن الثاني". قال السخاوي معقباً: "لأن القارئ إذا وصل غيَّر المعنى، فإذا قال: {تلك عقبي الذين اتقوا وعقبي الكافرين} (الرعد:35) غيَّر المعنى، وصيَّر الجنة عقبي الكافرين"، وكان حقه أن يصل فيقول: {تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار} (الرعد:35).

* مذاهب القراء في الوقف والابتداء

لأئمة القراء مذاهب في الوقف والابتداء، وهي على النحو الآتي:

- نافع كان يراعي تجانسهما بحسب المعنى.

- وابن كثير وحمزة حيث ينقطع النفّسُ -وهو الوقف الاضطراري- واستثنى ابن كثير قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله} (آل عمران:7) وقوله سبحانه: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم} (الأنعام:109) وقوله عز وجل: {ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر} (النحل:103).

- وعاصم والكسائي -يقفان- حيث تم الكلام.

- وأبو عمرو يتعمد رؤوس الآيات، وإن تعلقت بما بعدها، اتباعاً لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، حيث روى أبو داود وغيره عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أنها ذكرت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين) يقطع قراءته آية آية).

* شروط تحديد مواضع الوقف والابتداء

ليس لكل واحد من الناس أن يحدد مواضع الوقف والابتداء، بل ينبغي توفر شروط فيمن يقوم بشأن تحديد مواضع الوقف والابتداء، منها: العلم بالنحو، والعلم بالقراءات، والعلم بالتفسير، والعلم بالقصص القرآني، والعلم باللغة التي نزل عليها القرآن، واشترط بعضهم العلم بالفقه كذلك، قال صاحب هذا الرأي: "ولهذا فإن من لم يقبل شهادة القاذف وإن تاب، فإنه يقف عند قوله تعالى: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا} (النور:4) وأما من قالوا بقبول شهادته إذا تاب، ومن جملة ذلك إقامة الحد عليه، فهؤلاء يصلون الآية بالآية التي بعدها {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا} (النور:5).

* أمثلة تطبيقية تؤكد مدى ارتباط كل من التفسير والوقف بالآخر غير ما تقدم

1- قال تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا} (آل عمران:7) الشاهد من هذه الآية قوله سبحانه: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم} حيث قال الجمهور: الوقف علي قوله: {إلا الله} وقف تام. وقال غيرهم: ليس تامًّا، بل يوصل بما بعده ولا يوقف عليه.

فبحسب رأي الجمهور، فإن الله سبحانه في هذه الآية يذكر لنبيه صلى الله عليه وسلم وللناس أجمعين أنه أنزل القرآن فيه المحكم الواضح، والمتشابه غير الواضح، ثم بين بعد ذلك أن أهل الزيغ الحاقدين يتبعون هذا المتشابه بهدف التشكيك وإثارة البلبلة بين صفوف المؤمنين، مع أن المتشابه لا يعلمه إلا الله وحده فحسب، وعلى ذلك فالجملة التي بعد هذا الوقف، وهي قوله تعالى: {والراسخون في العلم يقولون آمنا به} ليست معطوفة علي لفظ الجلالة، بل الواو للاستئناف {والراسخون} مبتدأ، وجملة {يقولون} خبر، فالجملة هذه مقطوعة إذن عما قبلها، وقد قال بهذا القول كل من: ابن عمر وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز، وحكاه الطبري عن مالك، واختاره.

وبناء على رأي غير الجمهور، يكون المعنى أن الراسخين في العلم المتمكنين منه يعلمون أيضاً تأويل المتشابه، فقوله سبحانه: {والراسخون في العلم يقولون آمنا به} ليس مقطوعاً عما قبله، بل معطوفاً عليه، فالواو للعطف {والراسخون} معطوف على لفظ الجلالة، و{يقولون} حال. وهذا الرأي منقول عن مجاهد وابن عباس في قول آخر، حيث نُقل عنه أنه قال: أنا ممن يعلم تأويله.

ووَفْقَ تقدم يُعلم أن تفسير الآية قد اختلف بناءً علي اختلاف القراء حول موضع الوقف فيها. وبعبارة أخرى: إن موضع الوقف قد اختلف بحسب اختلاف نظرة العلماء إلى تفسيرها، فالتلازم واضح وظاهر بين موضع الوقف والتفسير.

2- قال عز وجل: {ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه} (يوسف:24) يرى كثير من العلماء أن الوقف على {همت به} وقف تام، بينما يرى فريق آخر أن الوقف على {برهان ربه} فأصحاب الرأي الأول قالوا: إن في الكلام تقديماً وتأخيراً؛ فتقدير الآية: {ولقد همت به} ولولا أن رأى برهان ربه (لهمَّ بها) وهؤلاء يرون بجانب لزوم الوقف على {همت به} يرون كذلك أن قوله: {وهم بها} هو جواب {لولا} مقدَّم عليها، أو دليل ذلك الجواب. ويترتب علي هذا الوجه انتفاء وقوع أيِّ (همٍّ) من جهة يوسف عليه السلام، ومن ثم فلا حاجة إلى تفسير ذلك (الهم) ولا إلى بيان حقيقته؛ إذ المعروف أن الحرف (لولا) حرف امتناع لوجود، أي امتناع وقوع الجواب لوجود الشرط، وبمعنى أخص: لم يقع (الهم) لوجود (البرهان).

وقد مال إلى هذا الوجه من المحْدَثِين -بجانب من ارتآه من القدامى- الشيخ عبد الوهاب النجار، ومحمد أبو شهبة، الذى قال عنه بعد أن حكاه: "إنه القول الجزل الذى يوافق ما دل عليه العقل من عصمة الأنبياء، ويدعو إليه السابق واللاحق".

وأما بالنسبة للرأي الثاني، والذى يرى أصحابه أن الوقف يكون على {برهان ربه} وليس على {همت به}، فحجتهم أن جواب (لولا) لا يمكن أن يتقدم عليها؛ ولذلك نحوا تفسير الآية مناحيَ متعددة؛ منها: أن المراد بـ (الهم) من جهتها طلب الفاحشة، ومن جهته عليه السلام حديث النفس، أو الخطرة التي تمر بالقلب، ثم تمضي.

وذهب رشيد رضا في تفسيره (المنار) إلى أن معنى (الهمين) واحد؛ فهي همت به أن تضربه بعد أن رفض الإذعان لهواها، مع أنه في نظرها عبدها وهى سيدته، وهو هم بذلك أيضاً. ولعل ذلك أرجح الآراء في تفسير الآية.

3- قال عز وجل: {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا} (الفرقان:27-29) الشاهد قوله سبحانه: {لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني} حيث وقف جمهور القراء عليه وقفاً تاماً؛ لأن كلام {الظالم} قد انتهى عند هذا الحد، ثم جاء بعد ذلك قوله سبحانه: {وكان الشيطان للإنسان خذولاً} تقريراً وبياناً لما قبله. وقال بعضهم: إن هذا القول {وكان الشيطان...} هو من تتمة كلام {الظالم} وعليه، فالوقف على {خذولاً} وليس على {إذ جاءني}.

قال الشوكاني تعليقاً على قوله تعالى: {كان الشيطان للإنسان خذولا}: "هذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها، ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى، أو من تمام كلام {الظالم}، وأنه سمى خليله شيطاناً بعد أن جعله مضلاً، أو أراد بالشيطان إبليس لكونه الذي حمله على مخاللة المضلين".

4- جاء في سياق حديث بلقيس مع قومها حين كانت تشاور في أمر سليمان عليه السلام قوله تعالى: {قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون} (النمل:34) قال جمهور القراء: إن الوقف على {أذلة} وقف تام. وقال غيرهم: بل الوقف على {وكذلك يفعلون} فعلى رأي الجمهور فإن كلام بلقيس قد انتهى عند {وجعلوا أعزة أهلها أذلة} ثم جاء هذا التذييل {وكذلك يفعلون} وهو من كلام الله سبحانه، تصديقاً لما ذهبت إليه بلقيس من أن الملوك إذا دخلوا قرية من القرى فاتحين لها أو غازين، فإنهم يخرجون أهلها، ويفرقون شملهم، ويتلفون ما فيها من خيرات. وبناء على ذلك، فهذا التذييل مستأنَف، وليس معطوفاً علي ما قبله.

وأما على رأي غير الجمهور، فتذييل الآية {وكذلك يفعلون} موصول بما قبله على أنه من كلام بلقيس، فـ (الواو) إذن للعطف، وما بعدها من جملة مقول القول. وبذلك تكون الجملة كما يقول البيضاوي: "تأكيداً لما وصفته بلقيس من حال الملوك، وتقريراً بأن ذلك من عادتهم المستمرة".

5- قد يختلف موضع الوقف وحكمه والتفسير معه تبعاً لاختلاف القراءة؛ قال في "الإتقان": قد يكون الوقف تاماً في تفسير، وإعراب، وقراءة، غير تام على آخر. وقل مثل ذلك في بقية أنواع الوقف الأخرى. ويُمَثَّل لذلك بقوله تعالى: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} (البقرة:125) حيث قرأ نافع وابن عامر {واتَّخَذوا} بفتح الخاء فعلاً ماضياً، أريد به الإخبار، وقرأ باقي العشرة {واتخِذوا} بكسر الخاء على أنه فعل أمر.

قال السيوطي: الوقف كافٍ بناء على قراءة {واتَّخَذوا} بالماضي، وهي قراءة نافع وابن عامر، وتام بناء على قراءة {واتَّخِذوا} بصيغة الأمر، وهي قراءة جمهور القراء؛ فعل قراءة (الماضي) بفتح الخاء {واتخذوا} فهو كلام مسوق للإخبار، معطوف على قوله تعالى: {وإذ جعلنا} وعليه فلا بد من إضمار (إذ) والمعنى: واذكر يا محمد حين {جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً} يعني مرجعاً يرجع الحجاج إليه بعد تفرقهم، حيث يتمتعون فيه بالأمن، فـ {مثابة} مصدر ثاب يثوب: إذا رجع. واذكر أيضاً حين اتخذ متبعو إبراهيم مقامه مصلى -كما ذكر ابن عطية (ت542هـ)- أو حين اتخذ أصحابك مقام إبراهيم مصلى امتثالاً لأمر الله، الثابت بالقراءة الأخرى {واتخِذوا} أو حين اتخذ الناس، كما قال مَكِّي بن أبي طالب حمُّوش (ت437هـ).

أما بالنسبة للقراءة الأخرى {واتَّخِذوا} بالأمر، فإنه كلام مستأنف جديد، لا علاقة له بما قبله، كما قال أبو البقاء، ابن الفاصِح (ت801هـ)؛ ولذلك فإن الوقف على {أَمْناً} وقف تام؛ لعدم ارتباطه لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى بما بعده. والتفسير بناء على هذه القراءة الثانية مختَلَف فيه؛ حيث قيل: إن المأمور بذلك إبراهيم عليه السلام ومتبعوه، وقيل: هو محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه، وهو الأرجح.

* مادة المقال مستفادة من كتاب (المعنى القرآني في ضوء اختلاف القراءات) لأحمد سعد الخطيب.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة