
ما أكثر ما يُمدَح العظماء، وما أقلَّ ما تُصيبُ المدائح مرماها، غير أنَّ عبارةً كهذه: "ما رأى مثلَ نفسه"، لا تقال إلا حين يعجز المدحُ عن بلوغ القمَّة، فيُكتفى بوصفٍ يقيم العالمَ مقام المعيار، لا المشبَّه، في قِصَرها اتَّساع، وفي غرابتها دَلالة، وفي تفرُّدها وعدٌ بكشفِ معدنٍ لا يُرى كل يوم.
أثناء قراءتي في كتبِ التَّراجِم، تستوقفني ما بينَ حينٍ وآخر عبارة محفِّزة وغريبة في الآن ذاته، وذلك قولهم في المترجَمِ له: «ما رأى مثلَ نفسه». كقولهم عن الخليل (ت: 173هـ): «ما رأى الراؤون مثل الخليل، ولا رأى الخليل مثل نفسه»، وكقول المزي (ت742): «ما رأيتُ مثل ابن تيمية، ولا رأى هو مثل نفسه».
وساقَ الإمامُ الذَّهبي (ت:748) ترجمة ضافية عن شيخ الإسلام تكتبُ بذوْبِ الذَّهب، وختمها قائلًا: "فلو حلفتُ بين الرُّكن والمقام لحلفت أني ما رأيت بعيني مثله، وأنه ما رأى مثل نفسه".
وفي تاريخ بغداد: "سَمِعْتُ الحاكم أَبَا عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه الحافظ- وسئل عَن الدارقطني- فقال: ما رأى مثل نفسه. قَالَ لي الأزهري: كان الدارقطني ذكيًّا إذا ذوكر شيئًا من العلم أي نوعٍ كانَ وجد عنده منه نصيبٌ وافر". وفي تاريخِ الإسلام: "قال سعيد بن علي الرَّيْحاني: ومن شيوخ أبي الحسين أحمد بن فارس اللَّغوي: أحمد بن طاهر بن المنجم، فكان يقول عنه: إنَّه ما رأي مثل نفسه، يعني ابن المنجم.قال ابن فارس: وما رأيتُ مثله".
وفي معجم الأدباءِ لياقوت: "أبو الحسن بن أبي علي المنتجب من أهل مرو، كاتبٌ مليح الخط فصيح العبارة وله شعر وترسل وبلاغة في غاية الحسن سافر إلى العراق وجال في بلاده ولعله ما رأى مثل نفسه في فنه".
وهذه عبارةٌ موجزة، لكنَّها مشحونةٌ بالدَّلالات، تفتحُ بابًا للتَّأمل في شخصيةِ العالم، وصاحب الفن، في وعيه بذاته، وفي نظرةِ المترجِمِ إليه، وهي كذلك جملة لا تكاد تتكرَّر كثيرًا في مدوَّنات التراجِم رغم امتلائها بأسماء لا تُحصى من العلماءِ والفضلاء؛ مما يجعلها أحقَّ بالدِّراسة، وأجدرَ بالاستجلاء، وأولى بأن نُعيد النَّظَر في سياقاتِ ورودها، وسرِّ ندرتها، ودلالاتها المركَّبة.
وقد أمضيتُ في التنقيب بين دفاتر الإمام الذَّهبي في سير أعلام النُّبلاء، وبعض من ألَّفَ في الطبقاتِ والتَّراجِم، وجدتُ أنها قيلت في زهاءِ أربعينَ عالِمًا – دون تدقيقٍ جامع – مما يجعلها مادة خصْبَة، جديرة بالتَّتبع والتَّأمل، والقراءة من زوايا تتجاوز الإعجاب الظَّاهري إلى محاولة فهم الظَّاهرة، واستبطان عللها، وأثرها، ودلالاتها.
دلالات هذه العبارة
إنها عبارةٌ مفصلية، تتجاوز جدار المدحِ المعتاد، لتدخل في حقلٍ نفسي، وسياقٍ فكري، وشخصي، واجتماعي، يخصُّ النُّخبة النَّادرة من أهلِ العلم والفكر والثَّقافة والإبداع، أولئك الذين بلغوا في العلمِ حدًّا لم يعودوا يرونَ من يشبههم، ولا من يضاهيهم، فليس كلّ من رأى نفسه مخدوعٌ بها، فقد يرى العالِم في مرآة الحقيقة ما لا تبلغه عيون النَّاظرين. لا يعني ذلك بالضرورة نفي التَّواضع، ولا الوقوعُ في الكِبْر، بل هو نوعٌ من الوعي الفذ بالفرادة، فرادة لا تقاسُ بالكثرة، بل بنوعِ العلم، وعمقه، وسرعة إدراكه، وسعة إحاطته، وحِدَّة نظره، وحضور أثره.
وفي باطنها – عند التَّأمل والنَّظَر – ثلاث دلالات:
أولًا: أنها تدلُّ على تمامِ التَّمكنِ في العلمِ، لا في فرعٍ منه فحسب، بل في مجموعِ العلم ومنهجه، ومهارته، وأدواته، وقدرته على توجيهِ الخلاف، وترجيح الرَّاجح، وإبداع غير المسبوق.
ثانيًا: أنها تكشفُ عن حضورٍ علميٍّ وشخصي، فصاحبها لا يكونُ باهتًا في مجلسه، ولا باهتًا في مؤلفاته، بل له من الكاريزما والجرأة والبصيرة ما يجعله "نموذجًا" لا "نسخة"، له مقامٌ في العلم، ومقامٌ في التَّأثير، ومقامٌ في النُّفوس، ولعلَّ في ترجمةِ الذَّهبي للإمامِ ابن تيمية ما يجلي هذا الأمر.
ثالثًا: أنَّ هذه العبارة - على نُدْرتها - لم تأتِ على سبيلِ التزكية المجرَّدة، بل في سياقٍ شعوريٍّ عميق؛ إما نقلًا عن العالمِ نفسه، أو عمن لازمه، أو عمن عرَفَ طبقته، فهي إذن ليست مدحًا عامًّا، بل شهادة وعيٍ، وقياسٍ دقيق.
ثمَّ إنَّ الغرابة في العبارة ليست في معناها وحده، بل في موضعها كذلك، إذ تُطلق في كتب امتلأت بتراجِمِ ألوف من العلماءِ والفضلاء، ولم تُقل إلا في حقِّ نفرٍ محدود، ما يدلُّ على انتقائيةٍ بالغة في إطلاقها، وميزانٍ صارم في توجيهها، فهي لا تُقال جزافًا، ولا تُوزَّع كما يُوزَّعُ المدح في مقدماتِ الكتب.
ولعلَّ مما يحسن الإشارة إليه أنها لم تقل فقط في أهلِ العلمِ وإنما وردت أيضًا في أصحابِ الفنون والمواهبِ الأخرى، فقد قال الأصفهانيُّ في الأغاني: "كانَ جحظة متصرِّفًا في فنون كثيرة، عارفًا بصناعةِ النُّجوم، كثير الإصابة في أحكامها، مليح الشِّعر، حلْو الطبْع. حاضر النَّادرة، بارعًا في لعبِ النَّرْد، حاذقًا بالطَّبْخ له فيه مصنَّف. عالمًا بأبنيات الملوك وزيِّهم في مجالسهم. ولم يكن أحدٌ يتقدمه في صَنْعَةِ الغناء وأكثرها مِن شِعرهِ، فيقال: ما رأي مثل نفسه".
والقصد من كون هذه العبارة محفِّزة، أنها تبثُّ في القلبِ معاني الإقدام، وتعطي انطباعًا عن الثِّقة الكبرى التي تسكنُ العالِم، وتحرضكَ على أن تطلب مثل ما طلب، وتجدَّ حيث جَدّ. كأنها تُهمسُ لك: كان واحدًا، فما المانع أن تكون؟
سؤال وجواب
وتبقى مسألة نُدرتها مثيرة للتساؤل:
الجواب – فيما أرى – أنَّ من قيلت فيهم، قد جمعوا إلى العلمِ بصمة التَّأثير، وإلى الرُّسوخ شخصية التَّفرد، وإلى التمكن الوعي بمقامِ الذَّات، وما أكثر من علا، لكن لم يرَ نفسه، وما أكثر من رآها، لكنها لم تكن جديرة بالرؤية!
وعجيبٌ أنَّ هذه العبارة – في أثرها النَّفسي – تُلهمُ القارئ أكثر مما تُعلي شأن المترجَمِ له. فهي تورث هزَّة في الطَّامحين، توقظُ فكرة النُّمو، وتشعل فيهم فتيل الإقدام، وتقول لهم ضمنًا: انظر إلى من سبقك، فليس في التَّاريخ من أُغلق دونه الباب.
كما أنها تُذكِّر بضرورة إعادة النَّظر في مفاهيم التَّواضع العلمي؛ إذ ليس من الزُّهد العلمي أن يتغافل الإنسان عن موهبته، أو يدفن بصيرته بحجَّة التَّواضع، بل العاقل من علِمَ قدر نفسه، وخاطبها بخطابِ الطموح، لا الوهم، وأعطاها حقها من الإيمان بالفضل، دون أن يغمسها في زهو الجاهلين.
ختامًا:
هذه العبارة بصيرةٌ نادرة، في زمنٍ يزداد فيه التَّشابه، ويتقلَّصُ فيه التَّفرُّد، هي علامة تُمنَحُ على العلمِ، والعمق، والحذق، والإقدام، والحضور، والسَّبق، والمكانة التي لا تُشترى ولا تُنتحل، فإذا مرَّت بكَ في كتاب، فاعلم أنكَ أمامَ رجلٍ اجتمعَ فيه النُّبوغ والنَّباهة والنَّفس الكبيرة، وكان نفسه مِيزانًا، لا يُقاسُ بغيره، بل يُقاسُ غيرُه به.
وحينَ يبلغ العالِم من الصِّدق ما يرى فيه نفسه كما هي، لا كما يحب النَّاس أن يروه، فذاكَ مقامٌ لم تبلغه إلا قلة، وكانت العبارة شاهدةً لهم، لا عليهم.