ويعرف مراد المتكلم بطرق متعددة :
منها : أن يصرح بإرادة ذلك المعنى .
ومنها : أن يستعمل اللفظ الذي له معنى ظاهر بالوضع ، ولا يبين بقرينة تصحب الكلام أنه لم يرد ذلك المعنى ، فكيف إذا حف بكلامه ما يدل على أنه إنما أراد حقيقته وما وضع له ، كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=164وكلم الله موسى تكليما ( النساء : 163 ) .
nindex.php?page=hadith&LINKID=964260وإنكم ترون ربكم عيانا كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب . فهذا مما يقطع به السامع له بمراد المتكلم ، فإذا أخبر عن مراده بما دل عليه حقيقة لفظه الذي وضع له مع القرائن المؤكدة ، كان صادقا في إخباره . وأما إذا
nindex.php?page=treesubj&link=28713_28709تأول الكلام بما لا يدل عليه ولا اقترن به ما يدل عليه ، فإخباره بأن هذا مراده كذب عليه ، وهو تأويل بالرأي ، وتوهم بالهوى .
وحقيقة الأمر : أن قول القائل : نحمله على كذا ، أو : نتأوله بكذا ، إنما هو من باب دفع دلالة اللفظ عما وضع له ، فإن منازعه لما احتج عليه به ولم يمكنه دفع وروده ، دفع معناه ، وقال : أحمله على خلاف ظاهره .
فإن قيل : بل للحمل معنى آخر ، لم تذكروه ، وهو : أن اللفظ لما استحال أن يراد به حقيقته وظاهره ، ولا يمكن تعطيله ، استدللنا بوروده
[ ص: 227 ] وعدم إرادة ظاهره على أن مجازه هو المراد ، فحملناه عليه دلالة لا ابتداء .
قيل : فهذا المعنى هو الإخبار عن المتكلم أنه أراده ، وهو إما صدق وإما كذب ، كما تقدم ، ومن الممتنع أن يريد خلاف حقيقته وظاهره ولا يبين للسامع المعنى الذي أراده ، بل يقرن بكلامه ما يؤكد إرادة الحقيقة ، ونحن لا نمنع أن المتكلم قد يريد بكلامه خلاف ظاهره ، إذا قصد التعمية على السامع حيث يسوغ ذلك ، ولكن المنكر أن يريد بكلامه خلاف حقيقته وظاهره إذا قصد البيان والإيضاح وإفهام مراده ! كيف والمتكلم يؤكد كلامه بما ينفي المجاز ، ويكرره غير مرة ، ويضرب له الأمثال .
وَيُعْرَفُ مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ بِطُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ :
مِنْهَا : أَنْ يُصَرِّحَ بِإِرَادَةِ ذَلِكَ الْمَعْنَى .
وَمِنْهَا : أَنْ يَسْتَعْمِلَ اللَّفْظَ الَّذِي لَهُ مَعْنًى ظَاهِرٌ بِالْوَضْعِ ، وَلَا يُبَيِّنُ بِقَرِينَةٍ تَصْحَبُ الْكَلَامَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ الْمَعْنَى ، فَكَيْفَ إِذَا حُفَّ بِكَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ حَقِيقَتَهُ وَمَا وُضِعَ لَهُ ، كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=164وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ( النِّسَاءِ : 163 ) .
nindex.php?page=hadith&LINKID=964260وَإِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي الظَّهِيرَةِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ . فَهَذَا مِمَّا يَقْطَعُ بِهِ السَّامِعُ لَهُ بِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ ، فَإِذَا أَخْبَرَ عَنْ مُرَادِهِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَقِيقَةُ لَفْظِهِ الَّذِي وُضِعَ لَهُ مَعَ الْقَرَائِنِ الْمُؤَكِّدَةِ ، كَانَ صَادِقًا فِي إِخْبَارِهِ . وَأَمَّا إِذَا
nindex.php?page=treesubj&link=28713_28709تَأَوَّلَ الْكَلَامَ بِمَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَا اقْتَرَنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ، فَإِخْبَارُهُ بِأَنَّ هَذَا مُرَادُهُ كَذِبٌ عَلَيْهِ ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ بِالرَّأْيِ ، وَتَوَهُّمٌ بِالْهَوَى .
وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ : أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : نَحْمِلُهُ عَلَى كَذَا ، أَوْ : نَتَأَوَّلُهُ بِكَذَا ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ دَفْعِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَمَّا وُضِعَ لَهُ ، فَإِنَّ مُنَازِعَهُ لَمَّا احْتَجَّ عَلَيْهِ بِهِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُ وُرُودِهِ ، دَفَعَ مَعْنَاهُ ، وَقَالَ : أَحْمِلُهُ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : بَلْ لِلْحَمْلِ مَعْنًى آخَرَ ، لَمْ تَذْكُرُوهُ ، وَهُوَ : أَنَّ اللَّفْظَ لَمَّا اسْتَحَالَ أَنْ يُرَادَ بِهِ حَقِيقَتُهُ وَظَاهِرُهُ ، وَلَا يُمْكِنُ تَعْطِيلُهُ ، اسْتَدْلَلْنَا بِوُرُودِهِ
[ ص: 227 ] وَعَدَمِ إِرَادَةِ ظَاهِرِهِ عَلَى أَنَّ مَجَازَهُ هُوَ الْمُرَادُ ، فَحَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ دَلَالَةً لَا ابْتِدَاءً .
قِيلَ : فَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْمُتَكَلِّمِ أَنَّهُ أَرَادَهُ ، وَهُوَ إِمَّا صِدْقٌ وَإِمَّا كَذِبٌ ، كَمَا تَقَدَّمَ ، وَمِنَ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يُرِيدَ خِلَافَ حَقِيقَتِهِ وَظَاهِرِهِ وَلَا يُبَيِّنُ لِلسَّامِعِ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ ، بَلْ يَقْرُنُ بِكَلَامِهِ مَا يُؤَكِّدُ إِرَادَةَ الْحَقِيقَةِ ، وَنَحْنُ لَا نَمْنَعُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ قَدْ يُرِيدُ بِكَلَامِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ ، إِذَا قَصَدَ التَّعْمِيَةَ عَلَى السَّامِعِ حَيْثُ يَسُوغُ ذَلِكَ ، وَلَكِنَّ الْمُنْكَرَ أَنْ يُرِيدَ بِكَلَامِهِ خِلَافَ حَقِيقَتِهِ وَظَاهِرِهِ إِذَا قَصَدَ الْبَيَانَ وَالْإِيضَاحَ وَإِفْهَامَ مُرَادِهِ ! كَيْفَ وَالْمُتَكَلِّمُ يُؤَكِّدُ كَلَامَهُ بِمَا يَنْفِي الْمَجَازَ ، وَيُكَرِّرُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ ، وَيَضْرِبُ لَهُ الْأَمْثَالَ .