( الخامس ) في ذكر بعض التفضيل بين المعلومات قال
العز بن عبد السلام : الجواهر والأجسام كلها متساوية من جهة ذواتها ، وإنما يفضل بعضها على بعض بصفاتها وأعراضها وانتسابها إلى الأوصاف الشريفة في التفاضل النفيسة ، وأوصلها تلميذه
القرافي في كتابه أنوار الفروق إلى عشرين قاعدة ، أولها تفضيل المعلوم على غيره بذاته دون سبب يعرض له يوجب التفضيل له على غيره وله مثل ، أحدها الواجب لذاته المستغني في وجوده عن غيره كذات الله تعالى وصفاته ، الثاني العلم حسن لذاته وهو أفضل من الظن للقطع بعدم الجهل معه وتجويز الجهل مع الظن ، وذلك لذات العلم لا لصفة قامت به ، كما أن الجهل نقيصة لذاته لا لصفة قامت به أوجبت نقصه ، بخلاف الجاهل والعالم ، نقص الجاهل لصفة قامت به وهي الجهل ،
nindex.php?page=treesubj&link=18471وفضل العالم بصفة قامت به وهي العلم ، الثالث الحياة أفضل من
[ ص: 411 ] الموت لذاتها لا لمعنى أوجب لها ذلك ، وسبب تفضيلها كونها تتأتى معها العلوم والقدرة والإرادات ، وغير ذلك من التصرفات وصفات الكمال كالنبوة والرسالة والولاية وغيرها ، وتعذر جميع ذلك مع الموت - يعني ابتداء ذلك وإن لم تنقطع هذه الأشياء بالموت ولا تفنى ولا تضمحل بل تدوم وتستمر - وتلك للحياة لذاتها لا لمعنى أوجب لها ذلك .
( القاعدة ) الثانية
nindex.php?page=treesubj&link=18471التفضيل بالصفات الحقيقية القائمة بالمفضل كتفضيل العالم على الجاهل والفاعل المختار على الموجب بالذات بسبب الإرادة والاختيار القائم به ، وتفضيل القادر على العاجز بسبب القدرة الوجودية القائمة به ، فهذا كله تفضيل بالصفات القائمة بالمفضل لذاته وبه خالف القاعدة الأولى .
( القاعدة ) الثالثة
nindex.php?page=treesubj&link=30483التفضيل بطاعة الله تعالى كتفضيل المؤمن على الكافر ، وتفضيل أهل الكتاب على عبدة الأوثان فأحل تعالى ذبائحهم وأباح تزويجنا من نسائهم دون عبدة الأوثان ، فإنه جعل ما ذبحوه كالميتة وتصرفهم فيه بالذكاة كتصرف الحيوان البهيم من السباع والكواسر في الأنعام لا أثر لذلك ، وجعل نساءهم كإناث الخيل والحمير محرمات الوطء ، كل ذلك اهتضام لهم لجحدهم الرسالة والرسل ، وكتفضيل الولي على آحاد المؤمنين المقصرين في الطاعة ، وقيل لاقتصارهم على أصل الدين الواجب وكثرة طاعة الولي ، وبذلك سمي وليا أي تولى الله بطاعته ، وقيل لأن الله تعالى تولاه بلطفه ، ولذلك أيضا تفاضل الأولياء بينهم بكثرة الطاعة فمن كان أكثر تقربا إلى الله تعالى كانت رتبته في الولاية أعظم ، وبتفضيل الشهيد على غيره من حيث الجملة ، لأنه أطاع الله تعالى ببذل نفسه وماله في نصرة دينه وأعظم بذلك طاعة ، وكتفضيل العلماء على الشهداء كما جاء في الحديث :
" nindex.php?page=treesubj&link=7862ما جميع الأعمال في الجهاد إلا كنقطة في بحر ، nindex.php?page=treesubj&link=18467وما الجهاد وجميع الأعمال في طلب العلم إلا كنقطة في بحر " . وفي حديث آخر :
" لو وزن مداد العلماء ودم الشهداء لرجح " . بسبب طاعة العلماء لله تعالى بضبط شرائعه وتعظيم شعائره التي
[ ص: 412 ] من جملتها الجهاد وهداية العباد إلى الملك الجواد ، وتوصيل معالم الأديان إلى يوم الدين ، ولولا سعيهم في ذلك من فضل الله تعالى لانقطع الجهاد ، وغيره ولم يبق على وجه الأرض من يقول " الله " ، وكل ذلك من نعم الله عليهم . قلت : هذا انتصار للقول بأفضلية العلم على الجهاد ، وهو مذهب
أبي حنيفة ومالك - رضي الله عنهما - فعندهما العلم على تعلمه وتعليمه أفضل من الجهاد ، وهي رواية عن
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد أيضا ، لأن العلم هو الدليل المرشد ، وقد قال
nindex.php?page=showalam&ids=13372الإمام أبو الوفاء بن عقيل : ومما أنعم الله علي أن حبب إلي العلم ، فهو أسنى الأعمال وأشرفها . قال
ابن مفلح في فروعه - واختاره أي القول بأن العلم أفضل الأعمال غيره من علمائنا - ولفظ الرواية : العلم أفضل الأعمال لمن صحت نيته ، قيل : فأي شيء تصحيح النية ؟ قال : ينوي أن يتواضع فيه وينفي عنه الجهل . نقله مهنا .
الرابعة
nindex.php?page=treesubj&link=30502_30482التفضيل بكثرة الثواب الواقع في العمل ، وله مثالات منها : الإيمان أفضل من جميع الأعمال بكثرة ثوابه ، فإن ثوابه الخلود في الجنان والخلوص من النيران ومن غضب الديان ، ومنها
nindex.php?page=treesubj&link=23459صلاة الجماعة ، فإنها أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين صلاة ، ومنها
nindex.php?page=treesubj&link=32749_32750_32751الصلاة في أحد المساجد الثلاثة ، ومنها
nindex.php?page=treesubj&link=17826صلاة القصر أفضل للمسافر من الإتمام وإن كان الإتمام أكثر عملا .
الخامسة التفضيل لشرف الموصوف ، منها صفات الله تعالى من علمه وكلامه وقدراته وإرادته وسائر الصفات المنسوبة إلى الله تعالى أفضل من غيرها لوجوه منها شرف الموصوف ، ومنها صفات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كعلمه وكرمه وشجاعته وحلمه وجميع ما هو صفة لنفسه الكريمة له الشرف والفضل على صفاتنا من وجوه ، أحدها شرف الموصوف .
السادسة التفضيل بشرف المدلول ، وله أمثلة ، منها
nindex.php?page=treesubj&link=33074تفضيل الأذكار الدالة على ذات الباري وصفاته العلى وأسمائه الحسنى ، ومنها تفضيل الآيات المتعلقة بالله كـ (
nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قل هو الله أحد ) على الآيات المتعلقة
بأبي لهب كـ (
nindex.php?page=tafseer&surano=111&ayano=1تبت يدا أبي لهب )
[ ص: 413 ] ومنها الآيات الدالة على الوجوب والتحريم أفضل من الآيات الدالة على الإباحة والكراهة والندب ، لاشتمالها على الحث على أعلى رتب المصالح والزجر عن أعظم المفاسد .
السابعة التفضيل بشرف الدلالة لا بشرف المدلول كشرف الحروف الدالة على الأوصاف الدالة على كلام الله تعالى ، فإن ذلك أوجب شرفها على جميع الحروف لهذه الدلالة ، وأمر الشرع بتعظيمها فلا تمسك إلا على طهارة ، ويكفر من أهانها بالقاذورات وله وقع عظيم في الدين ، فلا يجوز إخراجها عن بلاد المسلمين إلى بلاد الكافرين خشية أن تنالها أيديهم . قلت : وهذا على حسب اعتقاده من أنها مخلوقة ، وليست هي من كلام رب العالمين ، والحق أن ما بين دفتي المصحف كلام رب العالمين وحبله المتين ، والله أعلم .
الثامنة التفضيل بشرف التعلق كتفضيل العلم على الحياة ، فإن الحياة لا تتعلق بشيء بل لها موصوف فقط ، والعلم له موصوف ومتعلق فله مزية شرف بذلك ، وكذلك القدرة والإرادة والسمع بالأصوات والبصر بجميع الموجودات المبصرات .
التاسعة التفضيل بشرف المتعلق كتفضيل ( العلم ) المتعلق بذات الله وصفاته على غيره من العلوم ، وكتفضيل الفقه على الطب لتعلقه بأحكام الله تعالى ، وهذا القسم عين المدلول فكل مدلول متعلق وليس كل متعلق مدلولا ، لأن الدلالة والمدلول من باب الألفاظ والحقائق الدالة كالصنعة على الصانع فإنها تدل عليه ، وأما العلم ونحوه فلا يقال له دال بل هو مدلول في نفسه ، وليس بدليل على غيره بل له متعلق خاصة وهو معلومه ، وكذلك الإرادة المتعلقة بالخير أفضل من الإرادة المتعلقة بالشرور ،
nindex.php?page=treesubj&link=28272والنية في الصلاة أفضل من النية في الطهارة ، لأنها متعلقة بالمقاصد والثانية بالوسائل ، والمقاصد أفضل من الوسائل ، والمتعلق بالأفضل أفضل .
العاشرة التفضيل بكثرة التعلق كتفضيل علم الله تعالى على قدرته وإرادته وسمعه وبصره ، لتعلقه بجميع الواجبات والممكنات والمستحيلات
[ ص: 414 ] واختصاص الإرادة بالممكنات وجودا وعدما والقدرة بوجود الممكنات خاصة واختصاص السمع بالمسموعات على ما تقدم .
الحادية عشرة التفضيل بالمجاورة كتفضيل جلد المصحف على سائر الجلود .
الثانية عشرة
nindex.php?page=treesubj&link=25504التفضيل بالحلول كتفضيل قبره - صلى الله عليه وسلم - على جميع بقاع الأرض ، وحكاه
nindex.php?page=showalam&ids=14961القاضي عياض إجماعا والمراد والأعضاء الشريفة فيه ، وفي بدائع الفوائد للمحقق
ابن القيم قال
ابن عقيل : سألني سائل أيما أفضل حجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو
الكعبة ؟ فقلت : إن أردت مجرد الحجرة
فالكعبة أفضل ، وإن أردت وهو - صلى الله عليه وسلم - فيها فلا والله ولا العرش وحملته ولا جنة عدن ولا الأفلاك الدائرة ، لأن بالحجرة جسدا لو وزن بالكونين لرجح . انتهى .
الثالثة عشرة التفضيل بسبب الإضافة كقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=22أولئك حزب الله ) أضافهم إليه تعالى ليشرفهم بالإضافة إليه ، وإضافة
البيت إليه تعالى وكذا الناقة ونحوها .
الرابعة عشرة
nindex.php?page=treesubj&link=25032التفضيل بالأنساب والأسباب كتفضيل ذريته على جميع الذراري ، بسبب نسبهم المتصل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكتفضيل نسائه على جميع النساء وإن تفاوتن في ذلك .
الخامسة عشرة
nindex.php?page=treesubj&link=18471التفضيل بالثمرة والجدوى كتفضيل العالم على العابد ، لأن العلم يثمر صلاح الخلق وهدايتهم إلى الحق بالتعليم والإرشاد ، وأما العبادة فقاصرة على محلها ، ومن هذا الوجه تفضيل الرسالة على النبوة .
السادسة عشرة التفضيل بأكثرية الثمرة بأن تكون الحقيقتان لكل
[ ص: 415 ] واحد منهما ثمرة إحداهما أعظم وجدواها أكثر كثمرة علم الفقه وعلم الهندسة ، فإن كلاهما مثمر أحكاما شرعية لأن الهندسة يستعان بها في الحساب والمساحات ، والحسابات تدخل في المواريث وغيرها والمساحات تدخل في الإجارات ونحوها من نوادر المسائل الفقهية ، إلا أنها بالنسبة إلى مسائل الفقه قليلة ، فثمرة الفقه أعظم وعلم النحو أفضل من علم المنطق ، وعلم الأصول أنفع من علم النحو وكل علم بحسب ثمرته ، والله أعلم .
السابعة عشرة التفضيل بالتأثير كقدرة الله تعالى على العلم والكلام بالنسبة للتأثير ، فإنها مؤثرة في تحصيل وجود الممكنات والعلم تابع فمن حيث سعة المتعلق والعموم فالعلم أفضل ومن حيث التأثير فالقدرة ، والله أعلم ، وكذلك الإرادة بالنسبة إلى الحياة فإن الإرادة مؤثرة للتخصيص في الممكنات بزمانها وصفاتها الجائزة عليها والحياة لا تؤثر إيجادا ولا تخصيصا ، وليس في صفات الله السبعة التي تثبتها الصفاتية إلا القدرة والإرادة فقط .
الثامنة عشرة
nindex.php?page=treesubj&link=28734التفضيل بجودة البنية والتركيب كتفضيل الملائكة الكرام - عليهم السلام - على الجان بسبب جودة أبنيتهم وحسن تركيبهم ، فإنهم خلقوا من نور ،
فجبريل يسير من العرش إلى الفرش مسيرة سبعة آلاف سنة لحظة واحدة ، ويحمل
مدائن قوم لوط الخمسة من تحت الأرض على جناحيه ولا يضرب منها شيء ، بل يقتلعها من تحتها ويصعد بها إلى الجو ثم يقلبها وهذا عظيم ، والملك الواحد من الملائكة يقهر الجمع العظيم من الجان ، ولهذا سأل
سليمان - عليه السلام - ربه أن يولي على الجان الملائكة ففعل له ذلك ، فهم الزاجرون عند العزائم وغيرها التي يتعاطاها أهل هذا العلم ، فيقسمون على الملائكة بتلك الأقسام التي تعظمها الملائكة فتفعل في الجان ما يريده المقسم عليهم بتلك الأسماء العظيمة . كذا زعم
القرافي قال : وكانوا قبل زمن
سليمان - عليه السلام - يخالطون الناس في الأسواق ويعبثون بهم عبثا شديدا ، فلما رتب
سليمان - عليه السلام - هذا الترتيب وسأله من ربه انحازوا
[ ص: 416 ] إلى الفلوات والخراب من الأرض فقلت : أذيتهم ، والملائكة - عليهم السلام - تراقبهم في ذلك فمن عبث منهم وعثا ردوه أو قتلوه كما يفعل ولاة بني
آدم مع سفهائهم ، قال : وما سبب اقتدار الملائكة على الجان إلا فضل أبنيتهم ووفور قوتهم ، فهم المفضلون على الجان من هذا الوجه مضافا لبقية الوجوه ، ومن هذه الحيثية فضلت الملائكة على البشر .
فقال
القرافي : فإن الصحيح أن البشر أفضل على تفصيل فيه ، فإذا ورد نص في تفضيل الملك حمل ذلك التفضيل والثناء على الأبنية وجودة التركيب إذا كان النص يحتمل ذلك ، فتندفع أكثر الأسئلة والنقوض عن المستدل على أفضلية الأنبياء - صلوات الله عليهم وسلامه - ولا نزاع أن الملائكة ( أفضل ) في أبنيتهم ، وأبنية بني
آدم ضعيفة بالنسبة إلى أبنية الملائكة فتحمل نصوص التفضيل على ذلك ، وكذلك تفضيل الجان في الأبنية وجودة التركيب على بني
آدم ، ومن ثم الجان يعيشون الآلاف من السنين ولا تعرض لهم الأمراض والأسقام التي تعرض لبني
آدم ، بسبب أن أجسادهم ليست مشتملة على الرطوبات وأجرام الأغذية فلا يحصل لهم التعفن والآفات الناشئة عن الرطوبات ، ومن حيث جودة العنصر وحسن التركيب فضل الذهب على الفضة .
التاسعة عشرة التفضيل باختيار الله تعالى لمن يشاء على من يشاء ولما يشاء على ما يشاء ، فيفضل أحد المتساويين على الآخر من كل وجه كتفضيل شاة الزكاة على شاة التطوع ، وكتفضيل فاتحة الكتاب داخل صلاة الفرض على الفاتحة خارج الصلاة . وقال
ابن عبد السلام : الفضائل ضربان : أحدهما فضل الجمادات كفضل الجوهر على الذهب ، وفضل الذهب على الفضة ، وفضل الفضة على الحديد ، وفضل الأنوار على الظلمات ، وفضل الشفاف على غير الشفاف ، وفضل اللطيف على الكثيف ، والنير على المظلم ، والحسن على القبيح .
والضرب الثاني فضائل الحيوان وهي أقسام : أحدها حسن الصور ، ( الثاني ) قوة الأجسام كالقوى الجاذبة والممسكة والدافعة والغاذية والقوى على الجهاد والقتال وحمل الأعباء والأثقال ، ( والثالث ) الصفات الداعية إلى الخير والوازعة عن الشر كالغيرة والنخوة والحياء والشجاعة والسخاء والحلم ، ( الرابع ) العقول ، ( الخامس ) الحواس ، ( السادس ) العلوم المكتسبة وهي أقسام كمعرفة
[ ص: 417 ] وجود الإله وصفاته الذاتية والسلبية والفعلية ، ومعرفة إرسال الرسل وإنزال الكتب وتنبئة الأنبياء ، ومعرفة ما شرع الله من الأحكام الخمسة وأسبابها وشروطها وموانعها ، ومعرفة الأحوال الناشئة مما ذكر من المعارف كالخوف والرجاء والمحبة والتوكل والتعظيم والإجلال والقيام بطاعة الله تعالى في كل ما أمر به ونهى عنه ، وما رتبه الله تعالى على هذه المعارف والأحوال والطاعات من لذات الآخرة وأفراحها بالنعيم الجثماني والروحاني كلذة الأمن من عذاب الله والأنس بقربه وجواره وسماع كلامه وسلامه ، مصحوبة بالرضا الدائم والنعيم المقيم والنظر إلى وجه الله الكريم مع الخلاص من العذاب الأليم .
فهذه فضائل بعضها من بعض فمن اتصف بأفضلها كان أفضل البرية ، ولا شك أن معرفة الله تعالى ومعرفة صفاته ولذات رضاه والنظر إلى وجهه الكريم أفضل مما عداهن ، وأفضل الملائكة من قام به أفضل هذه الصفات فإن تساوى اثنان من الملائكة في ذلك لم يفضل أحدهما على الآخر ، وكذا إذا تساوى الملك والبشر في ذلك لم يفضل أحدهما عن الآخر ، فإن فضل الملك على البشر بشيء من ذلك كان أفضل منه ، وإن فضل البشر على الملك بشيء من ذلك كان أفضل منه ، والفضل منحصر في أوصاف الكمال ، والكمال إما بالمعارف والطاعات والأحوال ، وإما بالأفراح واللذات ، فإذا أحسن الله تعالى إلى أجساد الأنبياء بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وأحسن إلى أرواحهم بالمعارف الكاملة والأحوال المتوالية ، وأذاقهم لذة النظر إليه وسرور رضاه عنهم وكرامة تسليمه عليهم ، فأين للملك مثل هذا ؟
واعلم أن الأجساد مساكن الأرواح وللساكن والمسكن أحوال ، أحدها أن يكون الساكن أشرف من المسكن ، والثانية أن يكون المسكن أشرف من الساكن ، الثالثة أن يستويا في الشرف فلا يفضل أحدهما على الآخر ، فإذا كان الشرف للساكن فلا مبالاة بخساسة المسكن ، وإذا كان الشرف للمسكن فلا يشرف به الساكن - والأجساد مساكن الأرواح - ، ثم ذكر اختلاف الناس في التفضيل الواقع بين البشر والملك ، فقال : إن فاضل بينهما من جهة تفاوت الأجساد التي هي مساكن الأرواح ، فأجساد الملائكة أشرف وأفضل من أجساد البشر المركبة من الأخلاط ، وإن فاضل بين أرواح البشر وأرواح الملائكة
[ ص: 418 ] مع قصر النظر عن الأجساد التي هي مساكن الأرواح ، فأرواح الأنبياء أفضل من أرواح الملائكة ، لأنهم فضلوا عليهم بالإرسال ورسل الملائكة قليل ، لأن رسول الملائكة يأتي إلى نبي واحد ورسول البشر يأتي إلى الأمم وإلى أمة واحدة ، فيهديهم الله تعالى على يديه فيكون له أجر تبليغه ومثل أجر من اهتدى على يديه وليس مثل هذا للملائكة ، وبالجهاد في سبيل الله وبالصبر على مصائب الدنيا ومحنها ، والله تعالى يحب الصابرين ،
nindex.php?page=treesubj&link=28809ولا عبرة بفضل أجساد الملائكة على أجساد الأنبياء ، لأن الأجساد مساكن ولا شرف بالمساكن ، وإنما الشرف بالأوصاف القائمة بالساكن فالاعتبار بالساكنين دون المساكن ، فإن الأنبياء قد سكنوا في بطون أمهاتهم مع القطع بأنهم أفضل من أمهاتهم ، فروح
المسيح أفضل من جسد
مريم ، وكذلك روح
إبراهيم أفضل من جسد أمه ، وروح نبينا
محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل من جسد أمه .
فإذا تقرر هذا في أسباب التفضيل فاعلم أن هذه الأسباب الموجبة للتفضيل قد تتعارض ، فيكون الأفضل من حاز أكثرها وأفضلها ، وقد يختص المفضول ببعض الصفات الفاضلة ولا يقدح ذلك في التفضيل عليه كقوله - صلى الله عليه وسلم -
nindex.php?page=hadith&LINKID=1027052أقضاكم علي ، وأفرضكم زيد ، وأقرؤكم أبي ، وأعلمكم بالحلال والحرام nindex.php?page=showalam&ids=32معاذ بن جبل ، وأزهدكم أبو ذر - رضي الله عنهم - . مع أن
nindex.php?page=showalam&ids=1أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - أفضل من الجميع ، وكذلك الأنبياء فخص
سليمان بالملك العظيم ،
ونوح بالإنذار المئين من السنين ،
وآدم أبا البشر مع تفضيل
محمد - صلى الله عليه وعليهم أجمعين - فلولا جواز تخصيص المفضول بما ليس للفاضل للزم التناقض ، فلا جرم علمنا أن التفاضل ما بين الملائكة والأنبياء - عليهم السلام - إنما هو بالطاعات وكثرة المثوبات والأحوال السنيات وشرف النبوات والرسالات والدرجات العليات ، فكل من كان فيها أتم فهو أفضل ، وفيما ذكر من تعداد أسباب التفضيل الرد على
nindex.php?page=showalam&ids=15128المأمون بن هارون الرشيد الخليفة في زعمه أن أسباب التفضيل أربعة وكلها في
علي - رضي الله عنه - أكمل منها في غيره فزعم أنه أفضل الصحابة وهي العلم والشجاعة والكرم وشرف النسب . وأخذ يرد على الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - ويرد على أهل السنة فبطل بما ذكر دعوى هذا الحصر ، وكان
nindex.php?page=showalam&ids=15128المأمون هذا
[ ص: 419 ] رافضيا معتزليا قدريا ، ومسائل التفضيل كثيرة بين الأنبياء والصحابة والملائكة ، والله تعالى أعلم . وقد بسطنا العبارة وذكرنا ما لعله يفيد المطلوب غير أن الإعراض عن كثير مما ذكر كان أليق بشرح هذه الأرجوزة ، وبالله التوفيق .
( الْخَامِسُ ) فِي ذِكْرِ بَعْضِ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْمَعْلُومَاتِ قَالَ
الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ : الْجَوَاهِرُ وَالْأَجْسَامُ كُلُّهَا مُتَسَاوِيَةٌ مِنْ جِهَةِ ذَوَاتِهَا ، وَإِنَّمَا يُفَضَّلُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِصِفَاتِهَا وَأَعْرَاضِهَا وَانْتِسَابِهَا إِلَى الْأَوْصَافِ الشَّرِيفَةِ فِي التَّفَاضُلِ النَّفِيسَةِ ، وَأَوْصَلَهَا تِلْمِيذُهُ
الْقَرَافِيُّ فِي كِتَابِهِ أَنْوَارِ الْفُرُوقِ إِلَى عِشْرِينَ قَاعِدَةً ، أَوَّلُهَا تَفْضِيلُ الْمَعْلُومِ عَلَى غَيْرِهِ بِذَاتِهِ دُونَ سَبَبٍ يَعْرِضُ لَهُ يُوجِبُ التَّفْضِيلَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَلَهُ مِثْلٌ ، أَحَدُهَا الْوَاجِبُ لِذَاتِهِ الْمُسْتَغْنِي فِي وُجُودِهِ عَنْ غَيْرِهِ كَذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ ، الثَّانِي الْعِلْمُ حَسُنٌ لِذَاتِهِ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ الظَّنِّ لِلْقَطْعِ بِعَدَمِ الْجَهْلِ مَعَهُ وَتَجْوِيزِ الْجَهْلِ مَعَ الظَّنِّ ، وَذَلِكَ لِذَاتِ الْعِلْمِ لَا لِصِفَةٍ قَامَتْ بِهِ ، كَمَا أَنَّ الْجَهْلَ نَقِيصَةٌ لِذَاتِهِ لَا لِصِفَةٍ قَامَتْ بِهِ أَوْجَبَتْ نَقْصَهُ ، بِخِلَافِ الْجَاهِلِ وَالْعَالِمِ ، نَقْصُ الْجَاهِلِ لِصِفَةٍ قَامَتْ بِهِ وَهِيَ الْجَهْلُ ،
nindex.php?page=treesubj&link=18471وَفَضْلُ الْعَالِمِ بِصِفَةٍ قَامَتْ بِهِ وَهِيَ الْعِلْمُ ، الثَّالِثُ الْحَيَاةُ أَفْضَلُ مِنْ
[ ص: 411 ] الْمَوْتِ لِذَاتِهَا لَا لِمَعْنَى أَوْجَبَ لَهَا ذَلِكَ ، وَسَبَبُ تَفْضِيلِهَا كَوْنُهَا تَتَأَتَّى مَعَهَا الْعُلُومُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَاتُ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ وَصِفَاتِ الْكَمَالِ كَالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَالْوِلَايَةِ وَغَيْرِهَا ، وَتَعَذَّرَ جَمِيعُ ذَلِكَ مَعَ الْمَوْتِ - يَعْنِي ابْتِدَاءَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ تَنْقَطِعْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ بِالْمَوْتِ وَلَا تَفْنَى وَلَا تَضْمَحِلُّ بَلْ تَدُومُ وَتَسْتَمِرُّ - وَتِلْكَ لِلْحَيَاةِ لِذَاتِهَا لَا لِمَعْنًى أَوْجَبَ لَهَا ذَلِكَ .
( الْقَاعِدَةُ ) الثَّانِيَةُ
nindex.php?page=treesubj&link=18471التَّفْضِيلُ بِالصِّفَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِالْمُفَضَّلِ كَتَفْضِيلِ الْعَالِمِ عَلَى الْجَاهِلِ وَالْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ عَلَى الْمُوجَبِ بِالذَّاتِ بِسَبَبِ الْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ الْقَائِمِ بِهِ ، وَتَفْضِيلِ الْقَادِرِ عَلَى الْعَاجِزِ بِسَبَبِ الْقُدْرَةِ الْوُجُودِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِهِ ، فَهَذَا كُلُّهُ تَفْضِيلٌ بِالصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِالْمُفَضَّلِ لِذَاتِهِ وَبِهِ خَالَفَ الْقَاعِدَةَ الْأُولَى .
( الْقَاعِدَةُ ) الثَّالِثَةُ
nindex.php?page=treesubj&link=30483التَّفْضِيلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَتَفْضِيلِ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْكَافِرِ ، وَتَفْضِيلِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَأَحَلَّ تَعَالَى ذَبَائِحَهُمْ وَأَبَاحَ تَزْوِيجَنَا مِنْ نِسَائِهِمْ دُونَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ ، فَإِنَّهُ جَعَلَ مَا ذَبَحُوهُ كَالْمَيْتَةِ وَتَصَرُّفَهُمْ فِيهِ بِالذَّكَاةِ كَتَصَرُّفِ الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ مِنَ السِّبَاعِ وَالْكَوَاسِرِ فِي الْأَنْعَامِ لَا أَثَرَ لِذَلِكَ ، وَجَعَلَ نِسَاءَهُمْ كَإِنَاثِ الْخَيْلِ وَالْحَمِيرِ مُحَرَّمَاتِ الْوَطْءِ ، كُلُّ ذَلِكَ اهْتِضَامٌ لَهُمْ لِجَحْدِهِمُ الرِّسَالَةَ وَالرُّسُلَ ، وَكَتَفْضِيلِ الْوَلِيِّ عَلَى آحَادِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقَصِّرِينَ فِي الطَّاعَةِ ، وَقِيلَ لِاقْتِصَارِهِمْ عَلَى أَصْلِ الدِّينِ الْوَاجِبِ وَكَثْرَةِ طَاعَةِ الْوَلِيِّ ، وَبِذَلِكَ سُمِّيَ وَلِيًّا أَيْ تَوَلَّى اللَّهَ بِطَاعَتِهِ ، وَقِيلَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّاهُ بِلُطْفِهِ ، وَلِذَلِكَ أَيْضًا تَفَاضَلَ الْأَوْلِيَاءُ بَيْنَهُمْ بِكَثْرَةِ الطَّاعَةِ فَمَنْ كَانَ أَكْثَرَ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَانَتْ رُتْبَتُهُ فِي الْوِلَايَةِ أَعْظَمَ ، وَبِتَفْضِيلِ الشَّهِيدِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ ، لِأَنَّهُ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى بِبَذْلِ نَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي نُصْرَةِ دِينِهِ وَأَعْظِمْ بِذَلِكَ طَاعَةً ، وَكَتَفْضِيلِ الْعُلَمَاءِ عَلَى الشُّهَدَاءِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ :
" nindex.php?page=treesubj&link=7862مَا جَمِيعُ الْأَعْمَالِ فِي الْجِهَادِ إِلَّا كَنُقْطَةٍ فِي بَحْرٍ ، nindex.php?page=treesubj&link=18467وَمَا الْجِهَادُ وَجَمِيعُ الْأَعْمَالِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ إِلَّا كَنُقْطَةٍ فِي بَحْرٍ " . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ :
" لَوْ وُزِنَ مِدَادُ الْعُلَمَاءِ وَدَمُ الشُّهَدَاءِ لَرَجَحَ " . بِسَبَبِ طَاعَةِ الْعُلَمَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى بِضَبْطِ شَرَائِعِهِ وَتَعْظِيمِ شَعَائِرِهِ الَّتِي
[ ص: 412 ] مِنْ جُمْلَتِهَا الْجِهَادُ وَهِدَايَةُ الْعِبَادِ إِلَى الْمَلِكِ الْجَوَادِ ، وَتَوْصِيلُ مَعَالِمِ الْأَدْيَانِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ، وَلَوْلَا سَعْيُهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَانْقَطَعَ الْجِهَادُ ، وَغَيْرُهُ وَلَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَنْ يَقُولُ " اللَّهَ " ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ . قُلْتُ : هَذَا انْتِصَارٌ لِلْقَوْلِ بِأَفْضَلِيَّةِ الْعِلْمِ عَلَى الْجِهَادِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ
أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَعِنْدَهُمَا الْعِلْمُ عَلَى تَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ أَفْضَلُ مِنَ الْجِهَادِ ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=12251الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَيْضًا ، لِأَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الدَّلِيلُ الْمُرْشِدُ ، وَقَدْ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13372الْإِمَامُ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ : وَمِمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ أَنْ حَبَّبَ إِلَيَّ الْعِلْمَ ، فَهُوَ أَسْنَى الْأَعْمَالِ وَأَشْرَفُهَا . قَالَ
ابْنُ مُفْلِحٍ فِي فُرُوعِهِ - وَاخْتَارَهُ أَيِ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْعِلْمَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ غَيْرُهُ مِنْ عُلَمَائِنَا - وَلَفْظُ الرِّوَايَةِ : الْعِلْمُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ لِمَنْ صَحَّتْ نِيَّتُهُ ، قِيلَ : فَأَيُّ شَيْءٍ تَصْحِيحُ النِّيَّةِ ؟ قَالَ : يَنْوِي أَنْ يَتَوَاضَعَ فِيهِ وَيَنْفِيَ عَنْهُ الْجَهْلَ . نَقَلَهُ مُهَنَّا .
الرَّابِعَةُ
nindex.php?page=treesubj&link=30502_30482التَّفْضِيلُ بِكَثْرَةِ الثَّوَابِ الْوَاقِعِ فِي الْعَمَلِ ، وَلَهُ مِثَالَاتٌ مِنْهَا : الْإِيمَانُ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ بِكَثْرَةِ ثَوَابِهِ ، فَإِنَّ ثَوَابَهُ الْخُلُودُ فِي الْجِنَانِ وَالْخُلُوصُ مِنَ النِّيرَانِ وَمِنْ غَضَبِ الدَّيَّانِ ، وَمِنْهَا
nindex.php?page=treesubj&link=23459صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ ، فَإِنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً ، وَمِنْهَا
nindex.php?page=treesubj&link=32749_32750_32751الصَّلَاةُ فِي أَحَدِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ ، وَمِنْهَا
nindex.php?page=treesubj&link=17826صَلَاةُ الْقَصْرِ أَفْضَلُ لِلْمُسَافِرِ مِنَ الْإِتْمَامِ وَإِنْ كَانَ الْإِتْمَامُ أَكْثَرَ عَمَلًا .
الْخَامِسَةُ التَّفْضِيلُ لِشَرَفِ الْمَوْصُوفِ ، مِنْهَا صِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ عِلْمِهِ وَكَلَامِهِ وَقُدُرَاتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَسَائِرِ الصِّفَاتِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَفْضَلُ مَنْ غَيْرِهَا لِوُجُوهٍ مِنْهَا شَرَفُ الْمَوْصُوفِ ، وَمِنْهَا صِفَاتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَعِلْمِهِ وَكَرَمِهِ وَشَجَاعَتِهِ وَحِلْمِهِ وَجَمِيعِ مَا هُوَ صِفَةٌ لِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ لَهُ الشَّرَفُ وَالْفَضْلُ عَلَى صِفَاتِنَا مِنْ وُجُوهٍ ، أَحَدُهَا شَرَفُ الْمَوْصُوفِ .
السَّادِسَةُ التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الْمَدْلُولِ ، وَلَهُ أَمْثِلَةٌ ، مِنْهَا
nindex.php?page=treesubj&link=33074تَفْضِيلُ الْأَذْكَارِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَاتِ الْبَارِي وَصِفَاتِهِ الْعُلَى وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى ، وَمِنْهَا تَفْضِيلُ الْآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاللَّهِ كَـ (
nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) عَلَى الْآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ
بِأَبِي لَهَبٍ كَـ (
nindex.php?page=tafseer&surano=111&ayano=1تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ )
[ ص: 413 ] وَمِنْهَا الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ أَفْضَلُ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَالنَّدْبِ ، لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْحَثِّ عَلَى أَعْلَى رُتَبِ الْمَصَالِحِ وَالزَّجْرِ عَنْ أَعْظَمِ الْمَفَاسِدِ .
السَّابِعَةُ التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الدَّلَالَةِ لَا بِشَرَفِ الْمَدْلُولِ كَشَرَفِ الْحُرُوفِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَوْصَافِ الدَّالَّةِ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَوْجَبَ شَرَفَهَا عَلَى جَمِيعِ الْحُرُوفِ لِهَذِهِ الدَّلَالَةِ ، وَأَمَرَ الشَّرْعُ بِتَعْظِيمِهَا فَلَا تُمْسَكُ إِلَّا عَلَى طَهَارَةٍ ، وَيَكْفُرُ مَنْ أَهَانَهَا بِالْقَاذُورَاتِ وَلَهُ وَقْعٌ عَظِيمٌ فِي الدِّينِ ، فَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهَا عَنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى بِلَادِ الْكَافِرِينَ خَشْيَةَ أَنْ تَنَالَهَا أَيْدِيهِمْ . قُلْتُ : وَهَذَا عَلَى حَسَبِ اعْتِقَادِهِ مِنْ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ ، وَلَيْسَتْ هِيَ مِنْ كَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَالْحَقُّ أَنَّ مَا بَيْنَ دَفَّتَيِ الْمُصْحَفِ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحَبْلُهُ الْمَتِينُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
الثَّامِنَةُ التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ التَّعَلُّقِ كَتَفْضِيلِ الْعِلْمِ عَلَى الْحَيَاةِ ، فَإِنَّ الْحَيَاةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ بَلْ لَهَا مَوْصُوفٌ فَقَطْ ، وَالْعِلْمُ لَهُ مَوْصُوفٌ وَمُتَعَلِّقٌ فَلَهُ مَزِيَّةُ شَرَفٍ بِذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَالسَّمْعُ بِالْأَصْوَاتِ وَالْبَصَرُ بِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ الْمُبْصَرَاتِ .
التَّاسِعَةُ التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الْمُتَعَلِّقِ كَتَفْضِيلِ ( الْعِلْمِ ) الْمُتَعَلِّقِ بِذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْعُلُومِ ، وَكَتَفْضِيلِ الْفِقْهِ عَلَى الطِّبِّ لِتَعَلُّقِهِ بِأَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا الْقِسْمُ عَيْنُ الْمَدْلُولِ فَكُلُّ مَدْلُولٍ مُتَعَلِّقٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُتَعَلِّقٍ مَدْلُولًا ، لِأَنَّ الدَّلَالَةَ وَالْمَدْلُولَ مِنْ بَابِ الْأَلْفَاظِ وَالْحَقَائِقِ الدَّالَّةِ كَالصَّنْعَةِ عَلَى الصَّانِعِ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا الْعِلْمُ وَنَحْوُهُ فَلَا يُقَالُ لَهُ دَالٌّ بَلْ هُوَ مَدْلُولٌ فِي نَفْسِهِ ، وَلَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى غَيْرِهِ بَلْ لَهُ مُتَعَلِّقٌ خَاصَّةً وَهُوَ مَعْلُومُهُ ، وَكَذَلِكَ الْإِرَادَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْخَيْرِ أَفْضَلُ مِنَ الْإِرَادَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالشُّرُورِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=28272وَالنِّيَّةُ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنَ النِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ ، لِأَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَقَاصِدِ وَالثَّانِيَةُ بِالْوَسَائِلِ ، وَالْمَقَاصِدُ أَفْضَلُ مِنَ الْوَسَائِلِ ، وَالْمُتَعَلِّقُ بِالْأَفْضَلِ أَفْضَلُ .
الْعَاشِرَةُ التَّفْضِيلُ بِكَثْرَةِ التَّعَلُّقِ كَتَفْضِيلِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ ، لِتَعَلُّقِهِ بِجَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ وَالْمُسْتَحِيلَاتِ
[ ص: 414 ] وَاخْتِصَاصُ الْإِرَادَةِ بِالْمُمَكَّنَاتِ وَجُودًا وَعَدَمًا وَالْقُدْرَةُ بِوُجُودِ الْمُمْكِنَاتِ خَاصَّةً وَاخْتِصَاصُ السَّمْعِ بِالْمَسْمُوعَاتِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ التَّفْضِيلُ بِالْمُجَاوَرَةِ كَتَفْضِيلِ جِلْدِ الْمُصْحَفِ عَلَى سَائِرِ الْجُلُودِ .
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ
nindex.php?page=treesubj&link=25504التَّفْضِيلُ بِالْحُلُولِ كَتَفْضِيلِ قَبْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى جَمِيعِ بِقَاعِ الْأَرْضِ ، وَحَكَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14961الْقَاضِي عِيَاضٌ إِجْمَاعًا وَالْمُرَادُ وَالْأَعْضَاءُ الشَّرِيفَةُ فِيهِ ، وَفِي بَدَائِعِ الْفَوَائِدِ لِلْمُحَقِّقِ
ابْنِ الْقَيِّمِ قَالَ
ابْنُ عَقِيلٍ : سَأَلَنِي سَائِلٌ أَيُّمَا أَفْضَلُ حُجْرَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوِ
الْكَعْبَةُ ؟ فَقُلْتُ : إِنْ أَرَدْتَ مُجَرَّدَ الْحُجْرَةِ
فَالْكَعْبَةُ أَفْضَلُ ، وَإِنْ أَرَدْتَ وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا فَلَا وَاللَّهِ وَلَا الْعَرْشُ وَحَمَلَتُهُ وَلَا جَنَّةُ عَدْنٍ وَلَا الْأَفْلَاكُ الدَّائِرَةُ ، لِأَنَّ بِالْحُجْرَةِ جَسَدًا لَوْ وُزِنَ بِالْكَوْنَيْنِ لَرَجَحَ . انْتَهَى .
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ التَّفْضِيلُ بِسَبَبِ الْإِضَافَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=22أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ) أَضَافَهُمْ إِلَيْهِ تَعَالَى لِيُشَرِّفَهُمْ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ ، وَإِضَافَةُ
الْبَيْتِ إِلَيْهِ تَعَالَى وَكَذَا النَّاقَةُ وَنَحْوُهَا .
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ
nindex.php?page=treesubj&link=25032التَّفْضِيلُ بِالْأَنْسَابِ وَالْأَسْبَابِ كَتَفْضِيلِ ذُرِّيَّتِهِ عَلَى جَمِيعِ الذَّرَارِيِّ ، بِسَبَبِ نَسَبِهِمُ الْمُتَّصِلِ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَكَتَفْضِيلِ نِسَائِهِ عَلَى جَمِيعِ النِّسَاءِ وَإِنْ تَفَاوَتْنَ فِي ذَلِكَ .
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ
nindex.php?page=treesubj&link=18471التَّفْضِيلُ بِالثَّمَرَةِ وَالْجَدْوَى كَتَفْضِيلِ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ ، لِأَنَّ الْعِلْمَ يُثْمِرُ صَلَاحَ الْخَلْقِ وَهِدَايَتَهُمْ إِلَى الْحَقِّ بِالتَّعْلِيمِ وَالْإِرْشَادِ ، وَأَمَّا الْعِبَادَةُ فَقَاصِرَةٌ عَلَى مَحَلِّهَا ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ تَفْضِيلُ الرِّسَالَةِ عَلَى النُّبُوَّةِ .
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ التَّفْضِيلُ بِأَكْثَرِيَّةِ الثَّمَرَةِ بِأَنْ تَكُونَ الْحَقِيقَتَانِ لِكُلِّ
[ ص: 415 ] وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَرَةُ إِحْدَاهُمَا أَعْظَمُ وَجَدْوَاهَا أَكْثَرُ كَثَمَرَةِ عِلْمِ الْفِقْهِ وَعِلْمِ الْهَنْدَسَةِ ، فَإِنَّ كِلَاهُمَا مُثْمِرٌ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً لِأَنَّ الْهَنْدَسَةَ يُسْتَعَانُ بِهَا فِي الْحِسَابِ وَالْمِسَاحَاتِ ، وَالْحِسَابَاتُ تَدْخُلُ فِي الْمَوَارِيثِ وَغَيْرِهَا وَالْمِسَاحَاتُ تَدْخُلُ فِي الْإِجَارَاتِ وَنَحْوِهَا مِنْ نَوَادِرِ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ ، إِلَّا أَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَسَائِلِ الْفِقْهِ قَلِيلَةٌ ، فَثَمَرَةُ الْفِقْهِ أَعْظَمُ وَعِلْمُ النَّحْوِ أَفْضَلُ مِنْ عِلْمِ الْمَنْطِقِ ، وَعِلْمُ الْأُصُولِ أَنْفَعُ مِنْ عِلْمِ النَّحْوِ وَكُلُّ عِلْمٍ بِحَسَبِ ثَمَرَتِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ التَّفْضِيلُ بِالتَّأْثِيرِ كَقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّأْثِيرِ ، فَإِنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ فِي تَحْصِيلِ وُجُودِ الْمُمْكِنَاتِ وَالْعِلْمُ تَابِعٌ فَمِنْ حَيْثُ سِعَةُ الْمُتَعَلِّقِ وَالْعُمُومُ فَالْعِلْمُ أَفْضَلُ وَمِنْ حَيْثُ التَّأْثِيرُ فَالْقُدْرَةُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، وَكَذَلِكَ الْإِرَادَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَيَاةِ فَإِنَّ الْإِرَادَةَ مُؤَثِّرَةٌ لِلتَّخْصِيصِ فِي الْمُمْكِنَاتِ بِزَمَانِهَا وَصِفَاتِهَا الْجَائِزَةِ عَلَيْهَا وَالْحَيَاةُ لَا تُؤَثِّرُ إِيجَادًا وَلَا تَخْصِيصًا ، وَلَيْسَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ السَّبْعَةِ الَّتِي تُثْبِتُهَا الصِّفَاتِيَّةُ إِلَّا الْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ فَقَطْ .
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ
nindex.php?page=treesubj&link=28734التَّفْضِيلُ بِجَوْدَةِ الْبِنْيَةِ وَالتَّرْكِيبِ كَتَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - عَلَى الْجَانِّ بِسَبَبِ جَوْدَةِ أَبْنِيَتِهِمْ وَحُسْنِ تَرْكِيبِهِمْ ، فَإِنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ نُورٍ ،
فَجِبْرِيلُ يَسِيرُ مِنَ الْعَرْشِ إِلَى الْفَرْشِ مَسِيرَةَ سَبْعَةِ آلَافِ سَنَةٍ لَحْظَةً وَاحِدَةً ، وَيَحْمِلُ
مَدَائِنَ قَوْمِ لُوطٍ الْخَمْسَةَ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ عَلَى جَنَاحَيْهِ وَلَا يُضْرَبُ مِنْهَا شَيْءٌ ، بَلْ يَقْتَلِعُهَا مِنْ تَحْتِهَا وَيَصْعَدُ بِهَا إِلَى الْجَوِّ ثُمَّ يَقْلِبُهَا وَهَذَا عَظِيمٌ ، وَالْمَلَكُ الْوَاحِدُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَقْهَرُ الْجَمْعَ الْعَظِيمَ مِنَ الْجَانِّ ، وَلِهَذَا سَأَلَ
سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَبَّهُ أَنْ يُوَلِّيَ عَلَى الْجَانِّ الْمَلَائِكَةَ فَفَعَلَ لَهُ ذَلِكَ ، فَهُمُ الزَّاجِرُونَ عِنْدَ الْعَزَائِمِ وَغَيْرِهَا الَّتِي يَتَعَاطَاهَا أَهْلُ هَذَا الْعِلْمِ ، فَيُقْسِمُونَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ بِتِلْكَ الْأَقْسَامِ الَّتِي تُعَظِّمُهَا الْمَلَائِكَةُ فَتَفْعَلُ فِي الْجَانِّ مَا يُرِيدُهُ الْمُقْسِمُ عَلَيْهِمْ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ الْعَظِيمَةِ . كَذَا زَعَمَ
الْقَرَافِيُّ قَالَ : وَكَانُوا قَبْلَ زَمَنِ
سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُخَالِطُونَ النَّاسَ فِي الْأَسْوَاقِ وَيَعْبَثُونَ بِهِمْ عَبَثًا شَدِيدًا ، فَلَمَّا رَتَّبَ
سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هَذَا التَّرْتِيبَ وَسَأَلَهُ مِنْ رَبِّهِ انْحَازُوا
[ ص: 416 ] إِلَى الْفَلَوَاتِ وَالْخَرَابِ مِنَ الْأَرْضِ فَقَلَّتْ : أَذِيَّتُهُمْ ، وَالْمَلَائِكَةُ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - تُرَاقِبُهُمْ فِي ذَلِكَ فَمَنْ عَبَثَ مِنْهُمْ وَعَثَا رَدُّوهُ أَوْ قَتَلُوهُ كَمَا يَفْعَلُ وُلَاةُ بَنِي
آدَمَ مَعَ سُفَهَائِهِمْ ، قَالَ : وَمَا سَبَبَ اقْتِدَارِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْجَانِّ إِلَّا فَضْلُ أَبْنِيَتِهِمْ وَوُفُورُ قُوَّتِهِمْ ، فَهُمُ الْمُفَضَّلُونَ عَلَى الْجَانِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُضَافًا لِبَقِيَّةِ الْوُجُوهِ ، وَمِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ فُضِّلَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى الْبَشَرِ .
فَقَالَ
الْقَرَافِيُّ : فَإِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْبَشَرَ أَفْضَلُ عَلَى تَفْصِيلٍ فِيهِ ، فَإِذَا وَرَدَ نَصٌّ فِي تَفْضِيلِ الْمَلَكِ حُمِلَ ذَلِكَ التَّفْضِيلُ وَالثَّنَاءُ عَلَى الْأَبْنِيَةِ وَجَوْدَةِ التَّرْكِيبِ إِذَا كَانَ النَّصُّ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ ، فَتَنْدَفِعُ أَكْثَرُ الْأَسْئِلَةِ وَالنُّقُوضِ عَنِ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ - وَلَا نِزَاعَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ ( أَفْضَلُ ) فِي أَبْنِيَتِهِمْ ، وَأَبْنِيَةُ بَنِي
آدَمَ ضَعِيفَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَبْنِيَةِ الْمَلَائِكَةِ فَتُحْمَلُ نُصُوصُ التَّفْضِيلِ عَلَى ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ تَفْضِيلُ الْجَانِّ فِي الْأَبْنِيَةِ وَجَوْدَةِ التَّرْكِيبِ عَلَى بَنِي
آدَمَ ، وَمِنْ ثَمَّ الْجَانُّ يَعِيشُونَ الْآلَافَ مِنَ السِّنِينَ وَلَا تَعْرِضُ لَهُمُ الْأَمْرَاضُ وَالْأَسْقَامُ الَّتِي تَعْرِضُ لِبَنِي
آدَمَ ، بِسَبَبِ أَنَّ أَجْسَادَهُمْ لَيْسَتْ مُشْتَمِلَةً عَلَى الرُّطُوبَاتِ وَأَجْرَامِ الْأَغْذِيَةِ فَلَا يَحْصُلُ لَهُمُ التَّعَفُّنُ وَالْآفَاتُ النَّاشِئَةُ عَنِ الرُّطُوبَاتِ ، وَمِنْ حَيْثُ جَوْدَةُ الْعُنْصُرِ وَحُسْنُ التَّرْكِيبِ فُضِّلَ الذَّهَبُ عَلَى الْفِضَّةِ .
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ التَّفْضِيلُ بِاخْتِيَارِ اللَّهِ تَعَالَى لِمَنْ يَشَاءُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَلِمَا يَشَاءُ عَلَى مَا يَشَاءُ ، فَيُفَضِّلُ أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَتَفْضِيلِ شَاةِ الزَّكَاةِ عَلَى شَاةِ التَّطَوُّعِ ، وَكَتَفْضِيلِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ دَاخِلَ صَلَاةِ الْفَرْضِ عَلَى الْفَاتِحَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ . وَقَالَ
ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ : الْفَضَائِلُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا فَضْلُ الْجَمَادَاتِ كَفَضْلِ الْجَوْهَرِ عَلَى الذَّهَبِ ، وَفَضْلِ الذَّهَبِ عَلَى الْفِضَّةِ ، وَفَضْلِ الْفِضَّةِ عَلَى الْحَدِيدِ ، وَفَضْلِ الْأَنْوَارِ عَلَى الظُّلُمَاتِ ، وَفَضْلِ الشَّفَّافِ عَلَى غَيْرِ الشَّفَّافِ ، وَفَضْلِ اللَّطِيفِ عَلَى الْكَثِيفِ ، وَالنَّيِّرِ عَلَى الْمُظْلِمِ ، وَالْحَسَنِ عَلَى الْقَبِيحِ .
وَالضَّرْبُ الثَّانِي فَضَائِلُ الْحَيَوَانِ وَهِيَ أَقْسَامٌ : أَحَدُهَا حُسْنُ الصُّوَرِ ، ( الثَّانِي ) قُوَّةُ الْأَجْسَامِ كَالْقُوَى الْجَاذِبَةِ وَالْمُمْسِكَةِ وَالدَّافِعَةِ وَالْغَاذِيَةِ وَالْقُوَى عَلَى الْجِهَادِ وَالْقِتَالِ وَحَمْلِ الْأَعْبَاءِ وَالْأَثْقَالِ ، ( وَالثَّالِثُ ) الصِّفَاتُ الدَّاعِيَةُ إِلَى الْخَيْرِ وَالْوَازِعَةُ عَنِ الشَّرِّ كَالْغَيْرَةِ وَالنَّخْوَةِ وَالْحَيَاءِ وَالشَّجَاعَةِ وَالسَّخَاءِ وَالْحِلْمِ ، ( الرَّابِعُ ) الْعُقُولُ ، ( الْخَامِسُ ) الْحَوَاسُّ ، ( السَّادِسُ ) الْعُلُومُ الْمُكْتَسَبَةُ وَهِيَ أَقْسَامٌ كَمَعْرِفَةِ
[ ص: 417 ] وُجُودِ الْإِلَهِ وَصِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ وَالسَّلْبِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ ، وَمَعْرِفَةِ إِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَتَنْبِئَةِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَمَعْرِفَةِ مَا شَرَعَ اللَّهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ وَأَسْبَابِهَا وَشُرُوطِهَا وَمَوَانِعِهَا ، وَمَعْرِفَةِ الْأَحْوَالِ النَّاشِئَةِ مِمَّا ذُكِرَ مِنَ الْمَعَارِفِ كَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّوَكُّلِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ وَالْقِيَامِ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ ، وَمَا رَتَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ وَالطَّاعَاتِ مِنْ لَذَّاتِ الْآخِرَةِ وَأَفْرَاحِهَا بِالنَّعِيمِ الْجُثْمَانِيِّ وَالرُّوحَانِيِّ كَلَذَّةِ الْأَمْنِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَالْأُنْسِ بِقُرْبِهِ وَجِوَارِهِ وَسَمَاعِ كَلَامِهِ وَسَلَامِهِ ، مَصْحُوبَةً بِالرِّضَا الدَّائِمِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ مَعَ الْخَلَاصِ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ .
فَهَذِهِ فَضَائِلُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ فَمَنِ اتَّصَفَ بِأَفْضَلِهَا كَانَ أَفْضَلَ الْبَرِيَّةِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَةَ صِفَاتِهِ وَلَذَّاتِ رِضَاهُ وَالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ أَفْضَلُ مِمَّا عَدَاهُنَّ ، وَأَفْضَلُ الْمَلَائِكَةِ مَنْ قَامَ بِهِ أَفْضَلُ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَإِنْ تَسَاوَى اثْنَانِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي ذَلِكَ لَمْ يُفَضَّلْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ ، وَكَذَا إِذَا تَسَاوَى الْمَلَكُ وَالْبَشَرُ فِي ذَلِكَ لَمْ يُفَضَّلْ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ ، فَإِنَّ فُضِّلَ الْمَلَكُ عَلَى الْبَشَرِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ ، وَإِنَّ فُضِّلَ الْبَشَرُ عَلَى الْمَلَكِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ ، وَالْفَضْلُ مُنْحَصِرٌ فِي أَوْصَافِ الْكَمَالِ ، وَالْكَمَالُ إِمَّا بِالْمَعَارِفِ وَالطَّاعَاتِ وَالْأَحْوَالِ ، وَإِمَّا بِالْأَفْرَاحِ وَاللَّذَّاتِ ، فَإِذَا أَحْسَنَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى أَجْسَادِ الْأَنْبِيَاءِ بِمَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ، وَأَحْسَنَ إِلَى أَرْوَاحِهِمْ بِالْمَعَارِفِ الْكَامِلَةِ وَالْأَحْوَالِ الْمُتَوَالِيَةِ ، وَأَذَاقَهُمْ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَيْهِ وَسُرُورَ رِضَاهُ عَنْهُمْ وَكَرَامَةَ تَسْلِيمِهِ عَلَيْهِمْ ، فَأَيْنَ لِلْمَلَكِ مِثْلُ هَذَا ؟
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَجْسَادَ مَسَاكِنُ الْأَرْوَاحِ وَلِلسَّاكِنِ وَالْمَسْكَنِ أَحْوَالٌ ، أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ السَّاكِنُ أَشْرَفَ مِنَ الْمَسْكَنِ ، وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ الْمَسْكَنُ أَشْرَفَ مِنَ السَّاكِنِ ، الثَّالِثَةُ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الشَّرَفِ فَلَا يُفَضَّلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ ، فَإِذَا كَانَ الشَّرَفُ لِلسَّاكِنِ فَلَا مُبَالَاةَ بِخَسَاسَةِ الْمَسْكَنِ ، وَإِذَا كَانَ الشَّرَفُ لِلْمَسْكَنِ فَلَا يَشْرُفُ بِهِ السَّاكِنُ - وَالْأَجْسَادُ مَسَاكِنُ الْأَرْوَاحِ - ، ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي التَّفْضِيلِ الْوَاقِعِ بَيْنَ الْبَشَرِ وَالْمَلَكِ ، فَقَالَ : إِنْ فَاضَلَ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ تَفَاوُتِ الْأَجْسَادِ الَّتِي هِيَ مَسَاكِنُ الْأَرْوَاحِ ، فَأَجْسَادُ الْمَلَائِكَةِ أَشْرَفُ وَأَفْضَلُ مِنْ أَجْسَادِ الْبَشَرِ الْمُرَكَّبَةِ مِنَ الْأَخْلَاطِ ، وَإِنْ فَاضَلَ بَيْنَ أَرْوَاحِ الْبَشَرِ وَأَرْوَاحِ الْمَلَائِكَةِ
[ ص: 418 ] مَعَ قَصْرِ النَّظَرِ عَنِ الْأَجْسَادِ الَّتِي هِيَ مَسَاكِنُ الْأَرْوَاحِ ، فَأَرْوَاحُ الْأَنْبِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ أَرْوَاحِ الْمَلَائِكَةِ ، لِأَنَّهُمْ فُضِّلُوا عَلَيْهِمْ بِالْإِرْسَالِ وَرُسُلُ الْمَلَائِكَةِ قَلِيلٌ ، لِأَنَّ رَسُولَ الْمَلَائِكَةِ يَأْتِي إِلَى نَبِيٍّ وَاحِدٍ وَرَسُولُ الْبَشَرِ يَأْتِي إِلَى الْأُمَمِ وَإِلَى أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ ، فَيَهْدِيهِمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْهِ فَيَكُونُ لَهُ أَجْرُ تَبْلِيغِهِ وَمِثْلُ أَجْرِ مَنِ اهْتَدَى عَلَى يَدَيْهِ وَلَيْسَ مِثْلُ هَذَا لِلْمَلَائِكَةِ ، وَبِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَبِالصَّبْرِ عَلَى مَصَائِبِ الدُّنْيَا وَمِحَنِهَا ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ،
nindex.php?page=treesubj&link=28809وَلَا عِبْرَةَ بِفَضْلِ أَجْسَادِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى أَجْسَادِ الْأَنْبِيَاءِ ، لِأَنَّ الْأَجْسَادَ مَسَاكِنُ وَلَا شَرَفَ بِالْمَسَاكِنِ ، وَإِنَّمَا الشَّرَفُ بِالْأَوْصَافِ الْقَائِمَةِ بِالسَّاكِنِ فَالِاعْتِبَارُ بِالسَّاكِنِينَ دُونَ الْمَسَاكِنِ ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ قَدْ سَكَنُوا فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ أُمَّهَاتِهِمْ ، فَرُوحُ
الْمَسِيحِ أَفْضَلُ مَنْ جَسَدِ
مَرْيَمَ ، وَكَذَلِكَ رُوحُ
إِبْرَاهِيمَ أَفْضَلُ مَنْ جَسَدِ أُمِّهِ ، وَرُوحُ نَبِيِّنَا
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلُ مَنْ جَسَدِ أُمِّهِ .
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فِي أَسْبَابِ التَّفْضِيلِ فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ الْمُوجِبَةَ لِلتَّفْضِيلِ قَدْ تَتَعَارَضُ ، فَيَكُونُ الْأَفْضَلُ مَنْ حَازَ أَكْثَرَهَا وَأَفْضَلَهَا ، وَقَدْ يَخْتَصُّ الْمَفْضُولُ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ الْفَاضِلَةِ وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي التَّفْضِيلِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
nindex.php?page=hadith&LINKID=1027052أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ ، وَأَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ ، وَأَقْرَؤُكُمْ أُبَيٌّ ، وَأَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ nindex.php?page=showalam&ids=32مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، وَأَزْهَدُكُمْ أَبُو ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - . مَعَ أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=1أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَفْضَلُ مِنَ الْجَمِيعِ ، وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ فُخَصَّ
سُلَيْمَانُ بِالْمُلْكِ الْعَظِيمِ ،
وَنُوحٌ بِالْإِنْذَارِ الْمِئِينَ مِنَ السِّنِينَ ،
وَآدَمُ أَبَا الْبَشَرِ مَعَ تَفْضِيلِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - فَلَوْلَا جَوَازُ تَخْصِيصِ الْمَفْضُولِ بِمَا لَيْسَ لِلْفَاضِلِ لَلَزِمَ التَّنَاقُضَ ، فَلَا جَرَمَ عَلِمْنَا أَنَّ التَّفَاضُلَ مَا بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - إِنَّمَا هُوَ بِالطَّاعَاتِ وَكَثْرَةِ الْمَثُوبَاتِ وَالْأَحْوَالِ السَّنِيَّاتِ وَشَرَفِ النُّبُوَّاتِ وَالرِّسَالَاتِ وَالدَّرَجَاتِ الْعَلِيَّاتِ ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ فِيهَا أَتَمُّ فَهُوَ أَفْضَلُ ، وَفِيمَا ذُكِرَ مِنْ تَعْدَادِ أَسْبَابِ التَّفْضِيلِ الرَّدُّ عَلَى
nindex.php?page=showalam&ids=15128الْمَأْمُونِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ الْخَلِيفَةِ فِي زَعْمِهِ أَنَّ أَسْبَابَ التَّفْضِيلِ أَرْبَعَةٌ وَكُلُّهَا فِي
عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَكْمَلُ مِنْهَا فِي غَيْرِهِ فَزَعَمَ أَنَّهُ أَفْضَلُ الصَّحَابَةِ وَهِيَ الْعِلْمُ وَالشَّجَاعَةُ وَالْكَرَمُ وَشَرَفُ النَّسَبِ . وَأَخَذَ يَرُدُّ عَلَى الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - وَيَرُدُّ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَبَطَلَ بِمَا ذُكِرَ دَعْوَى هَذَا الْحَصْرِ ، وَكَانَ
nindex.php?page=showalam&ids=15128الْمَأْمُونُ هَذَا
[ ص: 419 ] رَافِضِيًّا مُعْتَزِلِيًّا قَدَرِيًّا ، وَمَسَائِلُ التَّفْضِيلِ كَثِيرَةٌ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّحَابَةِ وَالْمَلَائِكَةِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْعِبَارَةَ وَذَكَرْنَا مَا لَعَلَّهُ يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ غَيْرَ أَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا ذُكِرَ كَانَ أَلْيَقَ بِشَرْحِ هَذِهِ الْأُرْجُوزَةِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .