فصل الفسوق
وأما
nindex.php?page=treesubj&link=28652الفسوق : فهو في كتاب الله نوعان : مفرد مطلق ، ومقرون بالعصيان .
والمفرد نوعان أيضا : فسوق كفر ، يخرج عن الإسلام ، وفسوق لا يخرج عن الإسلام ، فالمقرون كقوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون .
والمفرد الذي هو فسوق كفر كقوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله الآية ، وقوله عز وجل
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=99ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=20وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها الآية ، فهذا كله فسوق كفر .
وأما الفسوق الذي لا يخرج عن الإسلام فكقوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم الآية ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=6ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ الآية ، فإن
[ ص: 368 ] هذه الآية
نزلت في nindex.php?page=showalam&ids=292الوليد بن عقبة بن أبي معيط لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق بعد الوقعة مصدقا ، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية ، فلما سمع القوم بمقدمه تلقوه ، تعظيما لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله ، فهابهم فرجع من الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن بني المصطلق منعوا صدقاتهم ، وأرادوا قتلي ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم أن يغزوهم ، فبلغ القوم رجوعه فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله ، سمعنا برسولك ، فخرجنا نتلقاه ونكرمه ، ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله ، فبدا له في الرجوع ، فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاء منك لغضب غضبته علينا ، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله ، فاتهمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعث nindex.php?page=showalam&ids=22خالد بن الوليد خفية في عسكر ، وأمره أن يخفي عليهم قدومه ، وقال له : انظر ، فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم ، وإن لم تر ذلك فاستعمل فيهم ما تستعمل في الكفار ، ففعل ذلك خالد ، ووافاهم ، فسمع منهم أذان صلاتي المغرب والعشاء ، فأخذ منهم صدقاتهم ، ولم ير منهم إلا الطاعة والخير ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر ، فنزل nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=6ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا الآية .
والنبأ هو الخبر الغائب عن المخبر إذا كان له شأن ، والتبين طلب بيان حقيقته والإحاطة بها علما .
وهاهنا فائدة لطيفة ، وهي أنه سبحانه لم يأمر برد
nindex.php?page=treesubj&link=15970_29170خبر الفاسق وتكذيبه ورد شهادته جملة ، وإنما أمر بالتبين ، فإن قامت قرائن وأدلة من خارج تدل على صدقه عمل بدليل الصدق ، ولو أخبر به من أخبر ، فهكذا ينبغي الاعتماد في رواية الفاسق وشهادته ، وكثير من الفاسقين يصدقون في أخبارهم ورواياتهم وشهاداتهم ، بل كثير منهم يتحرى الصدق غاية التحري ، وفسقه من جهات أخر ، فمثل هذا لا يرد خبره ولا شهادته ، ولو ردت شهادة مثل هذا وروايته لتعطلت أكثر الحقوق ، وبطل كثير من الأخبار الصحيحة ، ولاسيما من فسقه من جهة الاعتقاد والرأي ، وهو متحر للصدق ، فهذا لا يرد خبره ولا شهادته .
وأما من فسقه من جهة الكذب فإن كثر منه وتكرر ، بحيث يغلب كذبه على صدقه ، فهذا لا يقبل خبره ولا شهادته ، وإن ندر منه مرة ومرتين ، ففي رد شهادته وخبره بذلك قولان للعلماء ، وهما روايتان عن الإمام
أحمد رحمه الله .
والمقصود ذكر الفسوق الذي لا يخرج إلى الكفر .
[ ص: 369 ] nindex.php?page=treesubj&link=28652_19706_19715والفسوق الذي تجب التوبة منه أعم من الفسوق الذي ترد به الرواية والشهادة .
وكلامنا الآن فيما تجب التوبة منه ، وهو قسمان : فسق من جهة العمل ، وفسق من جهة الاعتقاد .
ففسق العمل نوعان : مقرون بالعصيان ومفرد .
فالمقرون بالعصيان : هو ارتكاب ما نهى الله عنه ، والعصيان : هو عصيان أمره ، كما قال الله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=66&ayano=6لا يعصون الله ما أمرهم وقال
موسى لأخيه
هارون عليهما السلام
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=92ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أفعصيت أمري وقال الشاعر :
أمرتك أمرا جازما فعصيتني فأصبحت مسلوب الإمارة نادما
فالفسق أخص بارتكاب النهي ، ولهذا يطلق عليه كثيرا ، كقوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم والمعصية أخص بمخالفة الأمر كما تقدم ، ويطلق كل منهما على صاحبه ، كقوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=50إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه فسمى مخالفته للأمر فسقا ، وقال
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=121وعصى آدم ربه فغوى فسمى ارتكابه للنهي معصية ، فهذا عند الإفراد ، فإذا اقترنا كان أحدهما لمخالفة الأمر ، والآخر لمخالفة النهي .
والتقوى اتقاء مجموع الأمرين ، وبتحقيقها تصح
nindex.php?page=treesubj&link=19715التوبة من الفسوق والعصيان ، بأن يعمل العبد بطاعة الله على نور من الله ، يرجو ثواب الله ، ويترك معصية الله ، على نور من الله ، يخاف عقاب الله .
nindex.php?page=treesubj&link=20427وفسق الاعتقاد كفسق أهل البدع الذين يؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر ويحرمون ما حرم الله ، ويوجبون ما أوجب الله ، ولكن ينفون كثيرا مما أثبت الله ورسوله ، جهلا وتأويلا ، وتقليدا للشيوخ ، ويثبتون ما لم يثبته الله ورسوله كذلك .
وهؤلاء
كالخوارج المارقة ، وكثير من
الروافض ، والقدرية ، والمعتزلة ، وكثير من
الجهمية الذين ليسوا غلاة في التجهم .
وأما غالية
الجهمية فكغلاة
الرافضة ، ليس للطائفتين في الإسلام نصيب .
[ ص: 370 ] ولذلك أخرجهم جماعة من السلف من الثنتين والسبعين فرقة ، وقالوا : هم مباينون للملة .
وليس مقصودنا الكلام في أحكام هؤلاء ، وإنما المقصود تحقيق التوبة من هذه الأجناس العشرة .
nindex.php?page=treesubj&link=20470_19706_19715فالتوبة من هذا الفسوق : بإثبات ما أثبته الله لنفسه ورسوله ، من غير تشبيه ولا تمثيل ، وتنزيهه عما نزه نفسه عنه ونزهه عنه رسوله ، من غير تحريف ولا تعطيل ، وتلقي النفي والإثبات من مشكاة الوحي ، لا من آراء الرجال ونتائج أفكارهم التي هي منشأ البدعة والضلالة .
فتوبة هؤلاء الفساق من جهة الاعتقادات الفاسدة بمحض اتباع السنة ، ولا يكتفى منهم بذلك أيضا حتى يبينوا فساد ما كانوا عليه من البدعة ، إذ التوبة من ذنب هي بفعل ضده ، ولهذا شرط الله تعالى في توبة الكاتمين ما أنزل الله من البينات والهدى البيان ، لأن ذنبهم لما كان بالكتمان ، كانت توبتهم منه بالبيان ، قال الله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=159إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=160إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم وذنب المبتدع فوق ذنب الكاتم ، لأن ذاك كتم الحق ، وهذا كتمه ودعا إلا خلافه ، فكل مبتدع كاتم ولا ينعكس .
وشرط في
nindex.php?page=treesubj&link=32483_18692توبة المنافق الإخلاص; لأن ذنبه بالرياء ، فقال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=145إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ثم قال
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=146إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما ولذلك كان الصحيح من القولين أن
nindex.php?page=treesubj&link=10563توبة القاذف إكذابه نفسه ، لأنه ضد الذنب الذي ارتكبه ، وهتك به عرض المسلم المحصن ، فلا تحصل التوبة منه إلا بإكذابه نفسه ، لينتفي عن المقذوف العار الذي ألحقه به بالقذف ، وهو مقصود التوبة .
وأما من قال : إن توبته أن يقول أستغفر الله من القذف ، ويعترف بتحريمه ، فقول ضعيف لأن هذا لا مصلحة فيه للمقذوف ، ولا يحصل له به براءة عرضه مما قذفه به ، فلا يحصل به مقصود التوبة من هذا الذنب ، فإن فيه حقين : حقا لله ، وهو تحريم
[ ص: 371 ] القذف ، فتوبته منه باستغفاره ، واعترافه بتحريم القذف ، وندمه عليه ، وعزمه على أن لا يعود ، وحقا للعبد ، وهو إلحاق العار به ، فتوبته منه بتكذيبه نفسه ، فالتوبة من هذا الذنب بمجموع الأمرين .
فإن قيل : إذا كان صادقا قد عاين الزنا ، فأخبر به ، فكيف يسوغ له تكذيب نفسه وقذفها بالكذب ، ويكون ذلك من تمام توبته ؟ .
قيل : هذا هو الإشكال الذي قال صاحب هذا القول لأجله ما قال إن توبته الاعتراف بتحريم القذف والاستغفار منه ، وهو موضع يحتاج فيه إلى بيان الكذب الذي حكم الله به على القاذف ، وأخبر أنه كاذب عنده ، ولو كان خبره مطابقا للواقع ، فنقول :
الكذب يراد به أمران ، أحدهما : الخبر غير المطابق لمخبره ، وهو نوعان : كذب عمد ، وكذب خطأ ، فكذب العمد معروف ، وكذب الخطأ ككذب
أبي السنابل بن بعكك في فتواه للمتوفى عنها إذا وضعت حملها أنها لا تحل حتى تتم لها أربعة أشهر وعشر فقال النبي صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=hadith&LINKID=980256كذب أبو السنابل ومنه قوله صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=hadith&LINKID=980257كذب من قالها لمن قال : حبط عمل عامر ، حيث قتل نفسه خطأ ، ومنه قول
nindex.php?page=showalam&ids=63عبادة بن الصامت : كذب
أبو محمد ، حيث قال : الوتر واجب ، فهذا كله من كذب الخطأ ، ومعناه أخطأ قائل ذلك .
والثاني من
nindex.php?page=treesubj&link=18983_19010أقسام الكذب : الخبر الذي لا يجوز الإخبار به ، وإن كان خبره مطابقا لمخبره ، كخبر القاذف المنفرد برؤية الزنا ، والإخبار به ، فإنه كاذب في حكم الله ، وإن كان خبره مطابقا لمخبره ، ولهذا قال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=13فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون فحكم الله في مثل هذا أن يعاقب عقوبة المفتري الكاذب ، وإن كان خبره مطابقا ، وعلى هذا فلا تتحقق توبته حتى يعترف بأنه كاذب عند الله ، كما أخبر الله تعالى
[ ص: 372 ] به عنه ، فإذا لم يعترف بأنه كاذب وجعله الله كاذبا ، فأي توبة له ؟ وهل هذا إلا محض الإصرار والمجاهرة بمخالفة حكم الله الذي حكم به عليه ؟
فَصْلٌ الْفُسُوقُ
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=28652الْفُسُوقُ : فَهُوَ فِي كِتَاب اللَّهِ نَوْعَانِ : مُفْرَدٌ مُطْلَقٌ ، وَمَقْرُونٌ بِالْعِصْيَانِ .
وَالْمُفْرَدُ نَوْعَانِ أَيْضًا : فُسُوقُ كُفْرٍ ، يُخْرِجُ عَنِ الْإِسْلَامِ ، وَفُسُوقٌ لَا يُخْرِجُ عَنِ الْإِسْلَامِ ، فَالْمَقْرُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ .
وَالْمُفْرَدُ الَّذِي هُوَ فُسُوقُ كُفْرٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ الْآيَةَ ، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=99وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=20وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا الْآيَةَ ، فَهَذَا كُلُّهُ فَسُوقُ كُفْرٍ .
وَأَمَّا الْفُسُوقُ الَّذِي لَا يُخْرِجُ عَنِ الْإِسْلَامِ فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ الْآيَةَ ، وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=6يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ الْآيَةَ ، فَإِنَّ
[ ص: 368 ] هَذِهِ الْآيَةَ
نَزَلَتْ فِي nindex.php?page=showalam&ids=292الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَنِي الْمُصْطَلَقِ بَعْدَ الْوَقْعَةِ مُصَدِّقًا ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَلَمَّا سَمِعَ الْقَوْمُ بِمَقْدِمِهِ تَلَقَّوْهُ ، تَعْظِيمًا لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَحَدَّثَهُ الشَّيْطَانُ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ ، فَهَابَهُمْ فَرَجَعَ مِنَ الطَّرِيقِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : إِنَّ بَنِي الْمُصْطَلَقِ مَنَعُوا صَدَقَاتِهِمْ ، وَأَرَادُوا قَتْلِي ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهَمَّ أَنْ يَغْزُوَهُمْ ، فَبَلَغَ الْقَوْمَ رُجُوعُهُ فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، سَمِعْنَا بِرَسُولِكَ ، فَخَرَجْنَا نَتَلَقَّاهُ وَنُكْرِمُهُ ، وَنُؤَدِّي إِلَيْهِ مَا قَبِلَنَا مِنْ حَقِّ اللَّهِ ، فَبَدَا لَهُ فِي الرُّجُوعِ ، فَخَشِينَا أَنَّهُ إِنَّمَا رَدَّهُ مِنَ الطَّرِيقِ كِتَابٌ جَاءَ مِنْكَ لِغَضَبٍ غَضَبْتَهُ عَلَيْنَا ، وَإِنَّا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِهِ وَغَضِبِ رَسُولِهِ ، فَاتَّهَمَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَبَعَثَ nindex.php?page=showalam&ids=22خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ خُفْيَةً فِي عَسْكَرٍ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُخْفِيَ عَلَيْهِمْ قُدُومَهُ ، وَقَالَ لَهُ : انْظُرْ ، فَإِنْ رَأَيْتَ مِنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى إِيمَانِهِمْ فَخُذْ مِنْهُمْ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ تَرَ ذَلِكَ فَاسْتَعْمِلْ فِيهِمْ مَا تَسْتَعْمِلُ فِي الْكُفَّارِ ، فَفَعَلَ ذَلِكَ خَالِدٌ ، وَوَافَاهُمْ ، فَسَمِعَ مِنْهُمْ أَذَانَ صَلَاتَيِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ، فَأَخَذَ مِنْهُمْ صَدَقَاتِهِمْ ، وَلَمْ يُرَ مِنْهُمْ إِلَّا الطَّاعَةَ وَالْخَيْرَ ، فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ ، فَنَزَلَ nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=6يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا الْآيَةَ .
وَالنَّبَأُ هُوَ الْخَبَرُ الْغَائِبُ عَنِ الْمُخْبَرِ إِذَا كَانَ لَهُ شَأْنٌ ، وَالتَّبَيُّنُ طَلَبُ بَيَانِ حَقِيقَتِهِ وَالْإِحَاطَةِ بِهَا عِلْمًا .
وَهَاهُنَا فَائِدَةٌ لَطِيفَةٌ ، وَهِيَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَأْمُرْ بِرَدِّ
nindex.php?page=treesubj&link=15970_29170خَبَرِ الْفَاسِقِ وَتَكْذِيبِهِ وَرَدِّ شَهَادَتِهِ جُمْلَةً ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالتَّبَيُّنِ ، فَإِنْ قَامَتْ قَرَائِنُ وَأَدِلَّةٌ مِنْ خَارِجٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ عُمِلَ بِدَلِيلِ الصِّدْقِ ، وَلَوْ أَخْبَرَ بِهِ مَنْ أَخْبَرَ ، فَهَكَذَا يَنْبَغِي الِاعْتِمَادُ فِي رِوَايَةِ الْفَاسِقِ وَشَهَادَتِهِ ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْفَاسِقِينَ يَصْدُقُونَ فِي أَخْبَارِهِمْ وَرِوَايَاتِهِمْ وَشَهَادَاتِهِمْ ، بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَتَحَرَّى الصِّدْقَ غَايَةَ التَّحَرِّي ، وَفِسْقُهُ مِنْ جِهَاتٍ أُخَرَ ، فَمِثْلُ هَذَا لَا يُرَدُّ خَبَرُهُ وَلَا شَهَادَتُهُ ، وَلَوْ رُدَّتْ شَهَادَةُ مِثْلِ هَذَا وَرِوَايَتُهُ لَتَعَطَّلَتْ أَكْثَرُ الْحُقُوقِ ، وَبَطَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ ، وَلَاسِيَّمَا مَنْ فِسْقُهُ مِنْ جِهَةِ الِاعْتِقَادِ وَالرَّأْيِ ، وَهُوَ مُتَحَرٍّ لِلصِّدْقِ ، فَهَذَا لَا يُرَدُّ خَبَرُهُ وَلَا شَهَادَتُهُ .
وَأَمَّا مَنْ فِسْقُهُ مِنْ جِهَةِ الْكَذِبِ فَإِنْ كَثُرَ مِنْهُ وَتَكَرَّرَ ، بِحَيْثُ يَغْلِبُ كَذِبُهُ عَلَى صِدْقِهِ ، فَهَذَا لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ وَلَا شَهَادَتُهُ ، وَإِنْ نَدُرَ مِنْهُ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ ، فَفِي رَدِّ شَهَادَتِهِ وَخَبَرِهِ بِذَلِكَ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنِ الْإِمَامِ
أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَالْمَقْصُودُ ذِكْرُ الْفُسُوقِ الَّذِي لَا يَخْرُجُ إِلَى الْكُفْرِ .
[ ص: 369 ] nindex.php?page=treesubj&link=28652_19706_19715وَالْفُسُوقُ الَّذِي تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهُ أَعَمُّ مِنَ الْفُسُوقِ الَّذِي تُرَدُّ بِهِ الرِّوَايَةُ وَالشَّهَادَةُ .
وَكَلَامُنَا الْآنَ فِيمَا تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهُ ، وَهُوَ قِسْمَانِ : فِسْقٌ مِنْ جِهَةِ الْعَمَلِ ، وَفِسْقٌ مِنْ جِهَةِ الِاعْتِقَادِ .
فَفِسْقُ الْعَمَلِ نَوْعَانِ : مَقْرُونٌ بِالْعِصْيَانِ وَمُفْرَدٌ .
فَالْمَقْرُونَ بِالْعِصْيَانِ : هُوَ ارْتِكَابُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ، وَالْعِصْيَانُ : هُوَ عِصْيَانُ أَمْرِهِ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=66&ayano=6لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَقَالَ
مُوسَى لِأَخِيهِ
هَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=92مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي وَقَالَ الشَّاعِرُ :
أَمَرْتُكَ أَمْرًا جَازِمًا فَعَصَيْتَنِي فَأَصْبَحْتَ مَسْلُوبَ الْإِمَارَةِ نَادِمًا
فَالْفِسْقُ أَخَصُّ بِارْتِكَابِ النَّهْيِ ، وَلِهَذَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَثِيرًا ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَالْمَعْصِيَةُ أَخَصُّ بِمُخَالَفَةِ الْأَمْرِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَيُطْلَقُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=50إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ فَسَمَّى مُخَالَفَتَهُ لِلْأَمْرِ فِسْقًا ، وَقَالَ
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=121وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى فَسَمَّى ارْتِكَابَهُ لِلنَّهْيِ مَعْصِيَةً ، فَهَذَا عِنْدَ الْإِفْرَادِ ، فَإِذَا اقْتَرَنَا كَانَ أَحَدُهُمَا لِمُخَالَفَةِ الْأَمْرِ ، وَالْآخَرُ لِمُخَالَفَةِ النَّهْيِ .
وَالتَّقْوَى اتِّقَاءُ مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ ، وَبِتَحْقِيقِهَا تَصِحُّ
nindex.php?page=treesubj&link=19715التَّوْبَةُ مِنَ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ ، بِأَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ ، يَرْجُو ثَوَابَ اللَّهِ ، وَيَتْرُكُ مَعْصِيَةَ اللَّهِ ، عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ ، يَخَافُ عِقَابَ اللَّهِ .
nindex.php?page=treesubj&link=20427وَفِسْقُ الِاعْتِقَادِ كَفِسْقِ أَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ، وَيُوجِبُونَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ ، وَلَكِنْ يَنْفُونَ كَثِيرًا مِمَّا أَثْبَتَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، جَهْلًا وَتَأْوِيلًا ، وَتَقْلِيدًا لِلشُّيُوخِ ، وَيُثْبِتُونَ مَا لَمْ يُثْبِتْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَذَلِكَ .
وَهَؤُلَاءِ
كَالْخَوَارِجِ الْمَارِقَةِ ، وَكَثِيرٍ مِنَ
الرَّوَافِضِ ، وَالْقَدَرِيَّةِ ، وَالْمُعْتَزِلَةِ ، وَكَثِيرٍ مِنَ
الْجَهْمِيَّةِ الَّذِينَ لَيْسُوا غُلَاةً فِي التَّجَهُّمِ .
وَأَمَّا غَالِيَّةُ
الْجَهْمِيَّةِ فَكَغُلَاةِ
الرَّافِضَةِ ، لَيْسَ لِلطَّائِفَتَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ نَصِيبٌ .
[ ص: 370 ] وَلِذَلِكَ أَخْرَجَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ مِنَ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً ، وَقَالُوا : هُمْ مُبَايِنُونَ لِلْمِلَّةِ .
وَلَيْسَ مَقْصُودُنَا الْكَلَامَ فِي أَحْكَامِ هَؤُلَاءِ ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَحْقِيقُ التَّوْبَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الْعَشْرَةِ .
nindex.php?page=treesubj&link=20470_19706_19715فَالتَّوْبَةُ مِنْ هَذَا الْفُسُوقِ : بِإِثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ وَرَسُولُهُ ، مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ وَلَا تَمْثِيلٍ ، وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا نَزَّهُ نَفْسَهُ عَنْهُ وَنَزَّهَهُ عَنْهُ رَسُولُهُ ، مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ ، وَتَلَقِّي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مِنْ مِشْكَاةِ الْوَحْيِ ، لَا مِنْ آرَاءِ الرِّجَالِ وَنَتَائِجِ أَفْكَارِهِمُ الَّتِي هِيَ مَنْشَأُ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ .
فَتَوْبَةُ هَؤُلَاءِ الْفُسَّاقِ مِنْ جِهَةِ الِاعْتِقَادَاتِ الْفَاسِدَةِ بِمَحْضِ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ ، وَلَا يُكْتَفَى مِنْهُمْ بِذَلِكَ أَيْضًا حَتَّى يُبَيِّنُوا فَسَادَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْبِدْعَةِ ، إِذِ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ هِيَ بِفِعْلِ ضِدِّهِ ، وَلِهَذَا شَرَطَ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَوْبَةِ الْكَاتِمِينَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى الْبَيَانَ ، لِأَنَّ ذَنْبَهُمْ لَمَّا كَانَ بِالْكِتْمَانِ ، كَانَتْ تَوْبَتُهُمْ مِنْهُ بِالْبَيَانِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=159إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=160إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ وَذَنْبُ الْمُبْتَدِعِ فَوْقَ ذَنْبِ الْكَاتِمِ ، لِأَنَّ ذَاكَ كَتَمَ الْحَقَّ ، وَهَذَا كَتَمَهُ وَدَعَا إِلَّا خِلَافِهِ ، فَكُلُّ مُبْتَدِعٍ كَاتِمٌ وَلَا يَنْعَكِسُ .
وَشَرَطَ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=32483_18692تَوْبَةِ الْمُنَافِقِ الْإِخْلَاصَ; لِأَنَّ ذَنْبَهُ بِالرِّيَاءِ ، فَقَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=145إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ثُمَّ قَالَ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=146إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا وَلِذَلِكَ كَانَ الصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=10563تَوْبَةَ الْقَاذِفِ إِكْذَابُهُ نَفْسَهُ ، لِأَنَّهُ ضِدَّ الذَّنْبِ الَّذِي ارْتَكَبَهُ ، وَهَتَكَ بِهِ عِرْضَ الْمُسْلِمِ الْمُحْصَنِ ، فَلَا تَحْصُلُ التَّوْبَةُ مِنْهُ إِلَّا بِإِكْذَابِهِ نَفْسَهُ ، لِيَنْتَفِيَ عَنِ الْمَقْذُوفِ الْعَارُ الَّذِي أَلْحَقَهُ بِهِ بِالْقَذْفِ ، وَهُوَ مَقْصُودُ التَّوْبَةِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إِنَّ تَوْبَتَهُ أَنْ يَقُولَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنَ الْقَذْفِ ، وَيَعْتَرِفَ بِتَحْرِيمِهِ ، فَقَوْلٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّ هَذَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ لِلْمَقْذُوفِ ، وَلَا يَحْصُلُ لَهُ بِهِ بَرَاءَةُ عِرْضِهِ مِمَّا قَذَفَهُ بِهِ ، فَلَا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُ التَّوْبَةِ مِنْ هَذَا الذَّنْبِ ، فَإِنَّ فِيهِ حَقَّيْنِ : حَقًّا لِلَّهِ ، وَهُوَ تَحْرِيمُ
[ ص: 371 ] الْقَذْفِ ، فَتَوْبَتُهُ مِنْهُ بِاسْتِغْفَارِهِ ، وَاعْتِرَافِهِ بِتَحْرِيمِ الْقَذْفِ ، وَنَدَمِهِ عَلَيْهِ ، وَعَزْمِهِ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ ، وَحَقًّا لِلْعَبْدِ ، وَهُوَ إِلْحَاقُ الْعَارِ بِهِ ، فَتَوْبَتُهُ مِنْهُ بِتَكْذِيبِهِ نَفْسَهُ ، فَالتَّوْبَةُ مِنْ هَذَا الذَّنْبِ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ .
فَإِنْ قِيلَ : إِذَا كَانَ صَادِقًا قَدْ عَايَنَ الزِّنَا ، فَأَخْبَرَ بِهِ ، فَكَيْفَ يَسُوغُ لَهُ تَكْذِيبُ نَفْسِهِ وَقَذْفُهَا بِالْكَذِبِ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ تَوْبَتِهِ ؟ .
قِيلَ : هَذَا هُوَ الْإِشْكَالُ الَّذِي قَالَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ لِأَجْلِهِ مَا قَالَ إِنَّ تَوْبَتَهُ الِاعْتِرَافُ بِتَحْرِيمِ الْقَذْفِ وَالِاسْتِغْفَارِ مِنْهُ ، وَهُوَ مَوْضِعٌ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى بَيَانِ الْكَذِبِ الَّذِي حَكَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْقَاذِفِ ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ كَاذِبٌ عِنْدَهُ ، وَلَوْ كَانَ خَبَرُهُ مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ ، فَنَقُولُ :
الْكَذِبُ يُرَادُ بِهِ أَمْرَانِ ، أَحَدُهُمَا : الْخَبَرُ غَيْرُ الْمُطَابِقِ لِمَخْبَرِهِ ، وَهُوَ نَوْعَانِ : كَذِبٌ عَمْدٌ ، وَكَذِبٌ خَطَأٌ ، فَكَذِبُ الْعَمْدِ مَعْرُوفٌ ، وَكَذِبُ الْخَطَأِ كَكَذِبِ
أَبِي السَّنَابِلِ بْنِ بَعْكَكٍ فِي فَتْوَاهُ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا إِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا أَنَّهَا لَا تَحِلُّ حَتَّى تَتِمَّ لَهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=980256كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=980257كَذَبَ مَنْ قَالَهَا لِمَنْ قَالَ : حَبِطَ عَمَلُ عَامِرٍ ، حَيْثُ قَتَلَ نَفْسَهُ خَطَأً ، وَمِنْهُ قَوْلُ
nindex.php?page=showalam&ids=63عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ : كَذَبَ
أَبُو مُحَمَّدٍ ، حَيْثُ قَالَ : الْوِتْرُ وَاجِبٌ ، فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ كَذِبِ الْخَطَأِ ، وَمَعْنَاهُ أَخْطَأَ قَائِلُ ذَلِكَ .
وَالثَّانِي مِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=18983_19010أَقْسَامِ الْكَذِبِ : الْخَبَرُ الَّذِي لَا يَجُوزُ الْإِخْبَارُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ مُطَابِقًا لِمَخْبَرِهِ ، كَخَبَرِ الْقَاذِفِ الْمُنْفَرِدِ بِرُؤْيَةِ الزِّنَا ، وَالْإِخْبَارِ بِهِ ، فَإِنَّهُ كَاذِبٌ فِي حُكْمِ اللَّهِ ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ مُطَابِقًا لِمَخْبَرِهِ ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=13فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ فَحُكْمُ اللَّهِ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يُعَاقَبَ عُقُوبَةَ الْمُفْتَرِي الْكَاذِبِ ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ مُطَابِقًا ، وَعَلَى هَذَا فَلَا تَتَحَقَّقُ تَوْبَتُهُ حَتَّى يَعْتَرِفَ بِأَنَّهُ كَاذِبٌ عِنْدَ اللَّهِ ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى
[ ص: 372 ] بِهِ عَنْهُ ، فَإِذَا لَمْ يَعْتَرِفْ بِأَنَّهُ كَاذِبٌ وَجَعَلَهُ اللَّهُ كَاذِبًا ، فَأَيُّ تَوْبَةٍ لَهُ ؟ وَهَلْ هَذَا إِلَّا مَحْضُ الْإِصْرَارِ وَالْمُجَاهَرَةِ بِمُخَالَفَةِ حُكْمِ اللَّهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ ؟