كتاب الأيمان
بالفتح جمع يمين وهو الحلف والقسم والإيلاء ألفاظ مترادفة ، وأصلها في اللغة اليد اليمنى لأنهم كانوا إذا حلفوا وضع أحدهم يمينه في يمين صاحبه .
وهي في الشرع بالنظر لوجوب تكفيرها تحقيق أمر محتمل بما يأتي ، وتسمية
nindex.php?page=treesubj&link=16342_16356_24741الحلف بنحو الطلاق يمينا شرعية غير بعيد ، فخرج بالتحقيق لغو اليمين ، وبالمحتمل نحو لأموتن أو
[ ص: 174 ] لا أصعد السماء لعدم تصور الحنث فيه بذاته فلا إخلال فيه بتعظيم اسم الله تعالى ، بخلاف لا أموت ولأصعدن السماء ولأقتلن الميت فإنه يمين يجب تكفيرها حالا ما لم يقيد الأخيرة بوقت كغد فيكفر غدا وذلك لهتكه حرمة الاسم ، ولا ترد هذه على التعريف لفهمها منه بالأولى إذ المحتمل له فيه شائبة عذر باحتمال الوقوع وعدمه ، بخلاف هذا فإنه عند حلفه هاتك حرمة الاسم لعلمه باستحالة البر فيه ،
nindex.php?page=treesubj&link=23641_16343_16351_16350_16348_16347وشرط الحالف يعلم مما مر في الطلاق وغيره ، بل ومما يأتي من التفصيل بين القصد وعدمه وهو مكلف أو سكران مختار قاصد ، فخرج صبي ومجنون ومكره وساه .
والأصل في الباب قبل الإجماع آيات قوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=89لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } الآية ، وقوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=77إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا } وأخبار منها {
nindex.php?page=hadith&LINKID=31133أنه صلى الله عليه وسلم كان يحلف لا ومقلب القلوب } وقوله {
nindex.php?page=hadith&LINKID=39832والله لأغزون قريشا ثلاث مرات ، ثم قال في الثالثة إن شاء الله } رواه
أبو داود nindex.php?page=treesubj&link=16378_16365_16369_16362 ( لا تنعقد ) اليمين ( إلا بذات الله تعالى ) أي اسم دال عليها وإن دل على صفة معها ( أو صفة له ) وستأتي ، فالأول ( كقوله والله ورب العالمين ) أي مالك المخلوقات لأن كل مخلوق دال على وجود خالقه ، والعالم بفتح اللام كل المخلوقات ( والحي الذي لا يموت ومن نفسي بيده ) أي قدرته يصرفها كيف شاء ومن فلق الحبة ( وكل اسم مختص به سبحانه وتعالى ) كالإله ومالك يوم الدين لأن الأيمان منعقدة بمن علمت حرمته ولزمت طاعته ، وإطلاق هذا مختص بالله تعالى فلا تنعقد بمخلوق كوحق النبي
[ ص: 175 ] والكعبة وجبريل ، ويكره لخبر {
nindex.php?page=hadith&LINKID=11488إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت } قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : وأخشى أن يكون الحلف بغير الله معصية ، نعم لو اعتقد تعظيمه كما يعظم الله كفر ، وما صرح به
المصنف من أن الجلالة الكريمة اسم للذات هو الصحيح ، ولهذا تجري عليه الصفات فتقول الله الرحمن الرحيم ، وقيل هو اسم للذات مع جملة الصفات . فإذا قلت الله فقد ذكرت جملة صفات الله تعالى ، وإدخاله الباء على المقصور عليه صحيح إذ هو لغة كما مر في نظائره وإن كان الأفصح دخولها على المقصور الذي عبر به هنا في الروضة ، ودعوى تصويب حصر دخولها على المقصور فقط لأن معنى كلامه لا يسمى به غير الله وهو المراد هنا ، وأما كلام الروضة فمعناه يسمى الله به ولا يسمى بغيره وليس مرادا مردودة .
وأورد على
المصنف اليمين الغموس وهي أن يحلف على ماض كاذبا عامدا فإنها يمين بالله ولا تنعقد لأن الحنث اقترن بها ظاهرا وباطنا ، ورد بأنه اشتباه نشأ من توهم أن المحصور الأخير والمحصور فيه الأول ، وليس كذلك بل المقرر أن المحصور فيه هو الجزء الأخير ، فانعقادها هو المحصور واسم الذات أو الصفة هو المحصور فيه ، فمعناه كل يمين منعقدة لا تكون إلا
[ ص: 176 ] باسم ذات أو صفة وهذا حصر صحيح ، لا أن كل ما هو باسم الله أو صفته لا يكون إلا منعقدا على أن جمعا متقدمين ذهبوا إلى انعقادها ( ولا يقبل ) باطنا ولا ظاهرا ( قوله : لم أرد به اليمين ) يعني لم أرد بما سبق من الأسماء والصفات لله تعالى لأنه نص في معناها لا تحتمل غيره ، أما لو قال في نحو بالله أو والله لأفعلن أردت بها غير اليمين كبالله أو والله المستعان أو وثقت أو استعنت بالله ، ثم ابتدأت بقولي لأفعلن فإنه يقبل ظاهرا لكن بالنسبة للحلف بالله دون عتق وطلاق وإيلاء فلا يقبل ظاهرا لتعلق حق الغير به
nindex.php?page=treesubj&link=16367_16368_16366 ( وما انصرف إليه سبحانه عند الإطلاق ) غالبا وإلى غيره بالتقييد ( كالرحيم والخالق والرازق ) والمصور والجبار والمتكبر والحق والظاهر والقادر ( والرب تنعقد به اليمين ) لانصراف الإطلاق إليه تعالى وأل فيها للكمال ( إلا أن يريد ) بها ( غيره ) تعالى بأن أراده أو أطلق ، بخلاف ما لو أراد بها غيره لأنه قد يستعمل في ذلك كرحيم القلب وخالق الكذب .
وما استشكل به من الرب بأل بأنه لا يستعمل في غيره تعالى فينبغي إلحاقه بالأول ، رد بأن أصل معناه في استعماله في غيره تعالى فصح قصده به ، وأل قرينة ضعيفة لا قوة لها على إلغاء ذلك القصد ( وما استعمل فيه وفي غيره ) تعالى ( سواء كالشيء والموجود والعالم ) بكسر اللام ( والحي والسميع والبصير والعليم والحكيم والغني ليس بيمين إلا بنية ) بأن أراده تعالى بها ، بخلاف ما إذا أراد بها غيره أو أطلق لأنها لما استعملت فيه وفي غيره سواء أشبهت كنايات الطلاق والاشتراك إنما يمنع الحرمة والتعظيم عند انتفاء النية ، وكثيرا ما يقع الحلف من العوام بالجناب الرفيع ويريدون به البارئ جل وعلا مع استحالة ذلك عليه ، إذ جناب الإنسان فناء داره فلا ينعقد وإن نوى به ذلك كما قاله
أبو زرعة لأن النية لا تؤثر مع الاستحالة ( و ) الثاني ويختص من الصفات بما لا شركة فيه وهو ( الصفة ) الذاتية وهي ( كوعظمة الله وعزته وكبريائه وكلامه
[ ص: 177 ] وعلمه وقدرته ومشيئته ) وإرادته ( يمين ) وإن أطلق لأنها صفات لم يزل سبحانه وتعالى متصفا بها فأشبهت الأسماء المختصة به ( إلا أن ينوي بالعلم المعلوم وبالقدرة المقدور ) وبالعظمة وما بعدها ظهور آثارها فلا يكون يمينا ويكون كأنه قال ومعلوم الله ومقدوره ، وكأن يريد بالكلام الحروف الدالة عليه وإطلاق كلامه عليها حقيقة شائعة في الكتاب والسنة فلا تكون يمينا لأن اللفظ محتمل لذلك ، وينعقد بكتاب الله وبالتوراة والإنجيل ما لم يرد الألفاظ كما هو واضح ، وبالقرآن ما لم يرد به نحو الخطبة ، وبالمصحف ما لم يرد به ورقه وجلده لأنه عند الإطلاق لا ينصرف عرفا إلا لما فيه من القرآن ، ويؤخذ منه عدم الفرق بين قوله والمصحف وحق المصحف ، وأخذ من كون العظمة صفة مع قول الناس سبحان من تواضع كل شيء لعظمته ، لأن التواضع للصفة عبادة لها ولا يعبد إلا الذات ، وهو مردود بأن العظمة هي المجموع من الذات والصفات ، فإن أريد بذلك هذا فصحيح أو مجرد الصفة فممتنع ولم يبينوا حكم الإطلاق ، والأوجه أنه لا منع فيه ، وعلم مما فسر به الصفة أن المراد بالاسم جميع أسمائه الحسنى التسعة والتسعين سواء اشتق من صفة ذاته كالسميع أو فعله كالخالق
كِتَابُ الْأَيْمَانِ
بِالْفَتْحِ جَمْعُ يَمِينٍ وَهُوَ الْحَلِفُ وَالْقَسَمُ وَالْإِيلَاءُ أَلْفَاظٌ مُتَرَادِفَةٌ ، وَأَصْلُهَا فِي اللُّغَةِ الْيَدُ الْيُمْنَى لِأَنَّهُمْ كَانُوا إذَا حَلَفُوا وَضَعَ أَحَدُهُمْ يَمِينَهُ فِي يَمِينِ صَاحِبِهِ .
وَهِيَ فِي الشَّرْعِ بِالنَّظَرِ لِوُجُوبِ تَكْفِيرِهَا تَحْقِيقُ أَمْرٍ مُحْتَمَلٍ بِمَا يَأْتِي ، وَتَسْمِيَةُ
nindex.php?page=treesubj&link=16342_16356_24741الْحَلِفِ بِنَحْوِ الطَّلَاقِ يَمِينًا شَرْعِيَّةً غَيْرُ بَعِيدٍ ، فَخَرَجَ بِالتَّحْقِيقِ لَغْوُ الْيَمِينِ ، وَبِالْمُحْتَمَلِ نَحْوُ لَأَمُوتَنَّ أَوْ
[ ص: 174 ] لَا أَصْعَدُ السَّمَاءَ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الْحِنْثِ فِيهِ بِذَاتِهِ فَلَا إخْلَالَ فِيهِ بِتَعْظِيمِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى ، بِخِلَافِ لَا أَمُوتُ وَلَأَصْعَدَنَّ السَّمَاءَ وَلَأَقْتُلَنَّ الْمَيِّتَ فَإِنَّهُ يَمِينٌ يَجِبُ تَكْفِيرُهَا حَالًا مَا لَمْ يُقَيِّدْ الْأَخِيرَةَ بِوَقْتٍ كَغَدٍ فَيُكَفِّرُ غَدًا وَذَلِكَ لِهَتْكِهِ حُرْمَةَ الِاسْمِ ، وَلَا تَرِدُ هَذِهِ عَلَى التَّعْرِيفِ لِفَهْمِهَا مِنْهُ بِالْأَوْلَى إذْ الْمُحْتَمَلُ لَهُ فِيهِ شَائِبَةُ عُذْرٍ بِاحْتِمَالِ الْوُقُوعِ وَعَدَمِهِ ، بِخِلَافِ هَذَا فَإِنَّهُ عِنْدَ حَلِفِهِ هَاتِكٌ حُرْمَةَ الِاسْمِ لِعِلْمِهِ بِاسْتِحَالَةِ الْبِرِّ فِيهِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=23641_16343_16351_16350_16348_16347وَشَرْطُ الْحَالِفِ يُعْلَمُ مِمَّا مَرَّ فِي الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ ، بَلْ وَمِمَّا يَأْتِي مِنْ التَّفْصِيلِ بَيْنَ الْقَصْدِ وَعَدَمِهِ وَهُوَ مُكَلَّفٌ أَوْ سَكْرَانُ مُخْتَارٌ قَاصِدٌ ، فَخَرَجَ صَبِيٌّ وَمَجْنُونٌ وَمُكْرَهٌ وَسَاهٍ .
وَالْأَصْلُ فِي الْبَابِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ آيَاتٌ قَوْله تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=89لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } الْآيَةَ ، وَقَوْلِهِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=77إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا } وَأَخْبَارٌ مِنْهَا {
nindex.php?page=hadith&LINKID=31133أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْلِفُ لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ } وَقَوْلُهُ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=39832وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ } رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد nindex.php?page=treesubj&link=16378_16365_16369_16362 ( لَا تَنْعَقِدُ ) الْيَمِينُ ( إلَّا بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى ) أَيْ اسْمٍ دَالٍّ عَلَيْهَا وَإِنْ دَلَّ عَلَى صِفَةٍ مَعَهَا ( أَوْ صِفَةٍ لَهُ ) وَسَتَأْتِي ، فَالْأَوَّلُ ( كَقَوْلِهِ وَاَللَّهِ وَرَبِّ الْعَالَمِينَ ) أَيْ مَالِكِ الْمَخْلُوقَاتِ لِأَنَّ كُلَّ مَخْلُوقٍ دَالٌّ عَلَى وُجُودِ خَالِقِهِ ، وَالْعَالَمُ بِفَتْحِ اللَّامِ كُلُّ الْمَخْلُوقَاتِ ( وَالْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَمَنْ نَفْسِي بِيَدِهِ ) أَيْ قُدْرَتِهِ يُصَرِّفُهَا كَيْفَ شَاءَ وَمَنْ فَلَقَ الْحَبَّةَ ( وَكُلِّ اسْمٍ مُخْتَصٍّ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ) كَالْإِلَهِ وَمَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ مُنْعَقِدَةٌ بِمَنْ عُلِمَتْ حُرْمَتُهُ وَلَزِمَتْ طَاعَتُهُ ، وَإِطْلَاقُ هَذَا مُخْتَصٌّ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَلَا تَنْعَقِدُ بِمَخْلُوقٍ كَوَحَقِّ النَّبِيِّ
[ ص: 175 ] وَالْكَعْبَةِ وَجِبْرِيلَ ، وَيُكْرَهُ لِخَبَرِ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=11488إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ } قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ : وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ مَعْصِيَةً ، نَعَمْ لَوْ اعْتَقَدَ تَعْظِيمَهُ كَمَا يُعَظِّمُ اللَّهَ كَفَرَ ، وَمَا صَرَّحَ بِهِ
الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ الْجَلَالَةَ الْكَرِيمَةَ اسْمٌ لِلذَّاتِ هُوَ الصَّحِيحُ ، وَلِهَذَا تَجْرِي عَلَيْهِ الصِّفَاتُ فَتَقُولُ اللَّهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ، وَقِيلَ هُوَ اسْمٌ لِلذَّاتِ مَعَ جُمْلَةِ الصِّفَاتِ . فَإِذَا قُلْتَ اللَّهُ فَقَدْ ذَكَرْتَ جُمْلَةَ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِدْخَالُهُ الْبَاءَ عَلَى الْمَقْصُورِ عَلَيْهِ صَحِيحٌ إذْ هُوَ لُغَةٌ كَمَا مَرَّ فِي نَظَائِرِهِ وَإِنْ كَانَ الْأَفْصَحُ دُخُولَهَا عَلَى الْمَقْصُورِ الَّذِي عَبَّرَ بِهِ هُنَا فِي الرَّوْضَةِ ، وَدَعْوَى تَصْوِيبِ حَصْرِ دُخُولِهَا عَلَى الْمَقْصُورِ فَقَطْ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ لَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُ اللَّهِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا ، وَأَمَّا كَلَامُ الرَّوْضَةِ فَمَعْنَاهُ يُسَمَّى اللَّهُ بِهِ وَلَا يُسَمَّى بِغَيْرِهِ وَلَيْسَ مُرَادًا مَرْدُودَةٌ .
وَأَوْرَدَ عَلَى
الْمُصَنِّفِ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ وَهِيَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى مَاضٍ كَاذِبًا عَامِدًا فَإِنَّهَا يَمِينٌ بِاَللَّهِ وَلَا تَنْعَقِدُ لِأَنَّ الْحِنْثَ اقْتَرَنَ بِهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ اشْتِبَاهٌ نَشَأَ مِنْ تَوَهُّمِ أَنَّ الْمَحْصُورَ الْأَخِيرُ وَالْمَحْصُورَ فِيهِ الْأَوَّلُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمُقَرَّرُ أَنَّ الْمَحْصُورَ فِيهِ هُوَ الْجُزْءُ الْأَخِيرُ ، فَانْعِقَادُهَا هُوَ الْمَحْصُورُ وَاسْمُ الذَّاتِ أَوْ الصِّفَةِ هُوَ الْمَحْصُورُ فِيهِ ، فَمَعْنَاهُ كُلُّ يَمِينٍ مُنْعَقِدَةٍ لَا تَكُونُ إلَّا
[ ص: 176 ] بِاسْمِ ذَاتٍ أَوْ صِفَةٍ وَهَذَا حَصْرٌ صَحِيحٌ ، لَا أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ بِاسْمِ اللَّهِ أَوْ صِفَتِهِ لَا يَكُونُ إلَّا مُنْعَقِدًا عَلَى أَنَّ جَمْعًا مُتَقَدِّمِينَ ذَهَبُوا إلَى انْعِقَادِهَا ( وَلَا يُقْبَلُ ) بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا ( قَوْلُهُ : لَمْ أُرِدْ بِهِ الْيَمِينَ ) يَعْنِي لَمْ أُرِدْ بِمَا سَبَقَ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ نَصٌّ فِي مَعْنَاهَا لَا تَحْتَمِلُ غَيْرَهُ ، أَمَّا لَوْ قَالَ فِي نَحْوِ بِاَللَّهِ أَوْ وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ أَرَدْتُ بِهَا غَيْرَ الْيَمِينِ كَبِاللَّهِ أَوْ وَاَللَّهِ الْمُسْتَعَانِ أَوْ وَثِقْت أَوْ اسْتَعَنْت بِاَللَّهِ ، ثُمَّ ابْتَدَأْتُ بِقَوْلِي لَأَفْعَلَنَّ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ ظَاهِرًا لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَلِفِ بِاَللَّهِ دُونَ عِتْقٍ وَطَلَاقٍ وَإِيلَاءٍ فَلَا يُقْبَلُ ظَاهِرًا لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ
nindex.php?page=treesubj&link=16367_16368_16366 ( وَمَا انْصَرَفَ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ) غَالِبًا وَإِلَى غَيْرِهِ بِالتَّقْيِيدِ ( كَالرَّحِيمِ وَالْخَالِقِ وَالرَّازِقِ ) وَالْمُصَوِّرِ وَالْجَبَّارِ وَالْمُتَكَبِّرِ وَالْحَقِّ وَالظَّاهِرِ وَالْقَادِرِ ( وَالرَّبِّ تَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ ) لِانْصِرَافِ الْإِطْلَاقِ إلَيْهِ تَعَالَى وَأَلْ فِيهَا لِلْكَمَالِ ( إلَّا أَنْ يُرِيدَ ) بِهَا ( غَيْرَهُ ) تَعَالَى بِأَنْ أَرَادَهُ أَوْ أَطْلَقَ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَرَادَ بِهَا غَيْرَهُ لِأَنَّهُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي ذَلِكَ كَرَحِيمِ الْقَلْبِ وَخَالِقِ الْكَذِبِ .
وَمَا اسْتَشْكَلَ بِهِ مِنْ الرَّبِّ بِأَلْ بِأَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ تَعَالَى فَيَنْبَغِي إلْحَاقُهُ بِالْأَوَّلِ ، رُدَّ بِأَنَّ أَصْلَ مَعْنَاهُ فِي اسْتِعْمَالِهِ فِي غَيْرِهِ تَعَالَى فَصَحَّ قَصْدُهُ بِهِ ، وَأَلْ قَرِينَةٌ ضَعِيفَةٌ لَا قُوَّةَ لَهَا عَلَى إلْغَاءِ ذَلِكَ الْقَصْدِ ( وَمَا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ ) تَعَالَى ( سَوَاءٌ كَالشَّيْءِ وَالْمَوْجُودِ وَالْعَالِمِ ) بِكَسْرِ اللَّامِ ( وَالْحَيِّ وَالسَّمِيعِ وَالْبَصِيرِ وَالْعَلِيمِ وَالْحَكِيمِ وَالْغَنِيِّ لَيْسَ بِيَمِينٍ إلَّا بِنِيَّةٍ ) بِأَنْ أَرَادَهُ تَعَالَى بِهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَرَادَ بِهَا غَيْرَهُ أَوْ أَطْلَقَ لِأَنَّهَا لَمَّا اُسْتُعْمِلَتْ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ سَوَاءً أَشْبَهَتْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ وَالِاشْتِرَاكُ إنَّمَا يَمْنَعُ الْحُرْمَةَ وَالتَّعْظِيمَ عِنْدَ انْتِفَاءِ النِّيَّةِ ، وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ الْحَلِفُ مِنْ الْعَوَامّ بِالْجَنَابِ الرَّفِيعِ وَيُرِيدُونَ بِهِ الْبَارِئَ جَلَّ وَعَلَا مَعَ اسْتِحَالَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، إذْ جَنَابُ الْإِنْسَانِ فِنَاءُ دَارِهِ فَلَا يَنْعَقِدُ وَإِنْ نَوَى بِهِ ذَلِكَ كَمَا قَالَهُ
أَبُو زُرْعَةَ لِأَنَّ النِّيَّةَ لَا تُؤَثِّرُ مَعَ الِاسْتِحَالَةِ ( وَ ) الثَّانِي وَيَخْتَصُّ مِنْ الصِّفَاتِ بِمَا لَا شَرِكَةَ فِيهِ وَهُوَ ( الصِّفَةُ ) الذَّاتِيَّةُ وَهِيَ ( كَوَعَظَمَةِ اللَّهِ وَعِزَّتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَكَلَامِهِ
[ ص: 177 ] وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ ) وَإِرَادَتِهِ ( يَمِينٌ ) وَإِنْ أَطْلَقَ لِأَنَّهَا صِفَاتٌ لَمْ يَزَلْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُتَّصِفًا بِهَا فَأَشْبَهَتْ الْأَسْمَاءَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ ( إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِالْعِلْمِ الْمَعْلُومَ وَبِالْقُدْرَةِ الْمَقْدُورَ ) وَبِالْعَظَمَةِ وَمَا بَعْدَهَا ظُهُورَ آثَارِهَا فَلَا يَكُونُ يَمِينًا وَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ وَمَعْلُومِ اللَّهِ وَمَقْدُورِهِ ، وَكَأَنْ يُرِيدَ بِالْكَلَامِ الْحُرُوفَ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ وَإِطْلَاقُ كَلَامِهِ عَلَيْهَا حَقِيقَةٌ شَائِعَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَا تَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لِذَلِكَ ، وَيَنْعَقِدُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَبِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مَا لَمْ يُرِدْ الْأَلْفَاظَ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ ، وَبِالْقُرْآنِ مَا لَمْ يُرِدْ بِهِ نَحْوَ الْخُطْبَةِ ، وَبِالْمُصْحَفِ مَا لَمْ يُرِدْ بِهِ وَرَقَهُ وَجِلْدَهُ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَا يَنْصَرِفُ عُرْفًا إلَّا لِمَا فِيهِ مِنْ الْقُرْآنِ ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ قَوْلِهِ وَالْمُصْحَفِ وَحَقِّ الْمُصْحَفِ ، وَأُخِذَ مِنْ كَوْنِ الْعَظَمَةِ صِفَةً مَعَ قَوْلِ النَّاسِ سُبْحَانَ مَنْ تَوَاضَعَ كُلُّ شَيْءٍ لِعَظَمَتِهِ ، لِأَنَّ التَّوَاضُعَ لِلصِّفَةِ عِبَادَةٌ لَهَا وَلَا يُعْبَدُ إلَّا الذَّاتُ ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّ الْعَظَمَةَ هِيَ الْمَجْمُوعُ مِنْ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ ، فَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ هَذَا فَصَحِيحٌ أَوْ مُجَرَّدُ الصِّفَةِ فَمُمْتَنِعٌ وَلَمْ يُبَيِّنُوا حُكْمَ الْإِطْلَاقِ ، وَالْأَوْجَهُ أَنَّهُ لَا مَنْعَ فِيهِ ، وَعُلِمَ مِمَّا فُسِّرَ بِهِ الصِّفَةُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْمِ جَمِيعُ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ سَوَاءٌ اُشْتُقَّ مِنْ صِفَةِ ذَاتِهِ كَالسَّمِيعِ أَوْ فِعْلِهِ كَالْخَالِقِ