واختلف هؤلاء في
nindex.php?page=treesubj&link=20993_20999كيفية وقوعها على مذهبين : أحدهما : أنها حقائق وضعها الشارع مبتكرة لم يلاحظ فيها المعنى اللغوي أصلا ، وليس
للعرب فيها تصرف ، وهو مذهب
المعتزلة . قالوا : وتارة يصادف الوضع الشرعي علاقة بينه وبين المعنى اللغوي ، فيكون اتفاقيا غير ملتفت إليه ، وتارة لا يصادفه ، وقالوا : نقل الشارع هذه الألفاظ من الصلاة والصيام وغيرهما من مسمياتها اللغوية ، وابتداء وضعها لهذه المعاني ، فليست حقائق لغوية ، ولا مجازات عنها . والثاني : أنها مأخوذة من الحقائق اللغوية على سبيل المجاز بأن يكون استعير لفظها للمدلول الشرعي لعلاقة ، وهو اختيار
الإمام في " المحصول " ، وهو في الحقيقة توسط بين المذهبين الأولين ، فإنه لم ير أن الشرع نقلها نقلا كليا ، فإن معاني اللغة لا تخلو منها ، ولا استعملها استعمالا كليا ، وإلا لتبادر الذهن إلى حقائقها اللغوية فلم يستعملها في حقيقتها اللغوية ، بل في مجازها اللغوي ، فإن
العرب كانوا يتكلمون بالحقيقة كما يتكلمون بالمجاز ، ومن مجازها : تسمية الشيء باسم أجزائه ، والصلاة
[ ص: 19 ] كذلك ، فإن الدعاء جزء منها ، بل المقصود منها ، قال : فلم يخرج استعماله عن وضع اللغة . وقد قال
ابن السمعاني في ذيل المسألة : وهو ممن صحح الوقوع ردا على من قال من أصحابنا : إنها مجازات شرعية ، ثم قال : والأصح : أنها حقائق شرعية ، ثم حقق ، وقال : ويجوز أن يقال : هذه الأسماء حقائق شرعية فيها معنى اللغة ; لأن الصلاة لا تخلو عن الدعاء في أغلب الأحوال ، والأخرس نادر ، ولأنا لو اعتبرنا ذلك فقد يخلو في بعض المرضى عن معظم الأفعال ، وبهذا اللفظ لا بأس به ا هـ .
وحاصله : أن
nindex.php?page=treesubj&link=20993الشارع تجوز ، ووضع اللفظ بإزاء المعنى الشرعي وضعا حقيقيا . وقال
الغزالي وإمام الحرمين : ثبت منها قصر التسمية على بعض مسمياتها ، فإن الصلاة لغة : الدعاء ، وقصره الشرع على دعاء مخصوص ، وثبت أيضا إطلاقها على الأفعال من السجود ونحوه توسعا واستعارة من الدعاء ، لأن الداعي خاضع ، فكذلك الساجد ، فالمثبت للنقل إن أراد القصر أو التجوز فلا معنى لإنكاره ، وإن أراد غيره فباطل ، ونازعه
nindex.php?page=showalam&ids=15140المازري ، وقال القصر والتجوز لا تغيير فيه ، فإن
العرب قد تقصر الشيء على غير ما وضعته له ، ويصير بغلبة الاستعمال حقيقة مهجورة كما في {
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=23حرمت عليكم أمهاتكم } لا يفهم منه إلا تحريم الوطء وهو مجاز وفيما قاله نظر ، لأنه يصح أن يقال : الزيادة على وضعهم تغيير ، فكذلك النقص منه ، لتعديه إلى غيره . والتحقيق فيه : أن الموضوعات الشرعية مسميات لم تكن معهودة من
[ ص: 20 ] قبل فلا بد من أسامي تعرف بها تلك المسميات ، وعند هذا لا بد من الجواب عن شبهة
المعتزلة ، فإنهم يقولون : هذا وضع ابتداء من قبل الشارع ، ونحن نقول في الجواب : جعله عرفيا على مثال أهل العرف أولى لوجهين : أحدهما : أن الشارع يضع الشرعيات أبدا على وزن العرفيات حتى تكون الطباع أقبل عليها . الثاني : أن اللفظ أطلق وأمكن اعتباره على الوجه الذي ذكرناه ، فوجب حمله عليه ; لأن الأصل هو التقرير ، وفيما قلناه تقرير من وجه ، وعند هذا يخرج الجواب عن استدلالهم بالآية والخبر ; لأن التعبير بالإيمان عن الصلاة ، وبالصلاة عن الإيمان ، إنما كان لنوع تعلق بينهما ; لأن الصلاة دليل الإيمان ، والإيمان شرط صحة الصلاة ، وفي اللغة يجوز التعبير بأحد المتعلقين عن الآخر . ومن فوائد هذا الخلاف الثاني أنه
nindex.php?page=treesubj&link=20993هل يحتاج المعنى الشرعي إلى علاقة أم لا ؟ فعلى الأول لا يحتاج ، وعلى الثاني نعم . قال
الماوردي في كتاب الصلاة من " الحاوي " : والذي عليه جمهور أهل العلم أن الشرع لاحظ فيها المعنى اللغوي .
قلت : ونص
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في " الأم " صريح في أنها مجازات لغوية ، قاله
ابن اللبان في ترتيب الأم " .
وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=20993_20999كَيْفِيَّةِ وُقُوعِهَا عَلَى مَذْهَبَيْنِ : أَحَدِهِمَا : أَنَّهَا حَقَائِقُ وَضَعَهَا الشَّارِعُ مُبْتَكَرَةً لَمْ يُلَاحَظْ فِيهَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ أَصْلًا ، وَلَيْسَ
لِلْعَرَبِ فِيهَا تَصَرُّفٌ ، وَهُوَ مَذْهَبُ
الْمُعْتَزِلَةِ . قَالُوا : وَتَارَةً يُصَادِفُ الْوَضْعُ الشَّرْعِيُّ عَلَاقَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ ، فَيَكُونُ اتِّفَاقِيًّا غَيْرَ مُلْتَفَتٍ إلَيْهِ ، وَتَارَةً لَا يُصَادِفُهُ ، وَقَالُوا : نَقَلَ الشَّارِعُ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ مُسَمَّيَاتِهَا اللُّغَوِيَّةِ ، وَابْتِدَاءً وَضْعَهَا لِهَذِهِ الْمَعَانِي ، فَلَيْسَتْ حَقَائِقَ لُغَوِيَّةً ، وَلَا مَجَازَاتٍ عَنْهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْحَقَائِقِ اللُّغَوِيَّةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ بِأَنْ يَكُونَ اُسْتُعِيرَ لَفْظُهَا لِلْمَدْلُولِ الشَّرْعِيِّ لِعَلَاقَةٍ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ
الْإِمَامِ فِي " الْمَحْصُولِ " ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَوَسَّطَ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَرَ أَنَّ الشَّرْعَ نَقَلَهَا نَقْلًا كُلِّيًّا ، فَإِنَّ مَعَانِيَ اللُّغَةِ لَا تَخْلُو مِنْهَا ، وَلَا اسْتَعْمَلَهَا اسْتِعْمَالًا كُلِّيًّا ، وَإِلَّا لَتَبَادَرَ الذِّهْنُ إلَى حَقَائِقِهَا اللُّغَوِيَّةِ فَلَمْ يَسْتَعْمِلْهَا فِي حَقِيقَتِهَا اللُّغَوِيَّةِ ، بَلْ فِي مَجَازِهَا اللُّغَوِيِّ ، فَإِنَّ
الْعَرَبَ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِالْحَقِيقَةِ كَمَا يَتَكَلَّمُونَ بِالْمَجَازِ ، وَمِنْ مَجَازِهَا : تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ أَجْزَائِهِ ، وَالصَّلَاةُ
[ ص: 19 ] كَذَلِكَ ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ جُزْءٌ مِنْهَا ، بَلْ الْمَقْصُودُ مِنْهَا ، قَالَ : فَلَمْ يَخْرُجْ اسْتِعْمَالُهُ عَنْ وَضْعِ اللُّغَةِ . وَقَدْ قَالَ
ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي ذَيْلِ الْمَسْأَلَةِ : وَهُوَ مِمَّنْ صَحَّحَ الْوُقُوعَ رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا : إنَّهَا مَجَازَاتٌ شَرْعِيَّةٌ ، ثُمَّ قَالَ : وَالْأَصَحُّ : أَنَّهَا حَقَائِقُ شَرْعِيَّةٌ ، ثُمَّ حَقَّقَ ، وَقَالَ : وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : هَذِهِ الْأَسْمَاءُ حَقَائِقُ شَرْعِيَّةٌ فِيهَا مَعْنَى اللُّغَةِ ; لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَخْلُو عَنْ الدُّعَاءِ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ ، وَالْأَخْرَسُ نَادِرٌ ، وَلِأَنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَا ذَلِكَ فَقَدْ يَخْلُو فِي بَعْضِ الْمَرْضَى عَنْ مُعْظَمِ الْأَفْعَالِ ، وَبِهَذَا اللَّفْظِ لَا بَأْسَ بِهِ ا هـ .
وَحَاصِلُهُ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=20993الشَّارِعَ تَجَوَّزَ ، وَوَضَعَ اللَّفْظَ بِإِزَاءِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ وَضْعًا حَقِيقِيًّا . وَقَالَ
الْغَزَالِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ : ثَبَتَ مِنْهَا قَصْرُ التَّسْمِيَةِ عَلَى بَعْضِ مُسَمَّيَاتِهَا ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ لُغَةً : الدُّعَاءُ ، وَقَصَرَهُ الشَّرْعُ عَلَى دُعَاءٍ مَخْصُوصٍ ، وَثَبَتَ أَيْضًا إطْلَاقُهَا عَلَى الْأَفْعَالِ مِنْ السُّجُودِ وَنَحْوِهِ تَوَسُّعًا وَاسْتِعَارَةً مِنْ الدُّعَاءِ ، لِأَنَّ الدَّاعِيَ خَاضِعٌ ، فَكَذَلِكَ السَّاجِدُ ، فَالْمُثْبِتُ لِلنَّقْلِ إنْ أَرَادَ الْقَصْرَ أَوْ التَّجَوُّزَ فَلَا مَعْنَى لِإِنْكَارِهِ ، وَإِنْ أَرَادَ غَيْرَهُ فَبَاطِلٌ ، وَنَازَعَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=15140الْمَازِرِيُّ ، وَقَالَ الْقَصْرُ وَالتَّجَوُّزُ لَا تَغْيِيرَ فِيهِ ، فَإِنَّ
الْعَرَبَ قَدْ تَقْصُرُ الشَّيْءَ عَلَى غَيْرِ مَا وَضَعَتْهُ لَهُ ، وَيَصِيرُ بِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ حَقِيقَةً مَهْجُورَةً كَمَا فِي {
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=23حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلَّا تَحْرِيمُ الْوَطْءِ وَهُوَ مَجَازٌ وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : الزِّيَادَةُ عَلَى وَضْعِهِمْ تَغْيِيرٌ ، فَكَذَلِكَ النَّقْصُ مِنْهُ ، لِتَعَدِّيهِ إلَى غَيْرِهِ . وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ : أَنَّ الْمَوْضُوعَاتِ الشَّرْعِيَّةَ مُسَمَّيَاتٌ لَمْ تَكُنْ مَعْهُودَةً مِنْ
[ ص: 20 ] قَبْلُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَسَامِي تُعْرَفُ بِهَا تِلْكَ الْمُسَمَّيَاتُ ، وَعِنْدَ هَذَا لَا بُدَّ مِنْ الْجَوَابِ عَنْ شُبْهَةِ
الْمُعْتَزِلَةِ ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : هَذَا وُضِعَ ابْتِدَاءً مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ فِي الْجَوَابِ : جَعْلُهُ عُرْفِيًّا عَلَى مِثَالِ أَهْلِ الْعُرْفِ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا : أَنَّ الشَّارِعَ يَضَعُ الشَّرْعِيَّاتِ أَبَدًا عَلَى وَزْنِ الْعُرْفِيَّاتِ حَتَّى تَكُونَ الطِّبَاعُ أَقْبَلَ عَلَيْهَا . الثَّانِي : أَنَّ اللَّفْظَ أُطْلِقَ وَأَمْكَنَ اعْتِبَارُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ التَّقْرِيرُ ، وَفِيمَا قُلْنَاهُ تَقْرِيرٌ مِنْ وَجْهٍ ، وَعِنْدَ هَذَا يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ وَالْخَبَرِ ; لِأَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْإِيمَانِ عَنْ الصَّلَاةِ ، وَبِالصَّلَاةِ عَنْ الْإِيمَانِ ، إنَّمَا كَانَ لِنَوْعِ تَعَلُّقٍ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ الصَّلَاةَ دَلِيلُ الْإِيمَانِ ، وَالْإِيمَانُ شَرْطُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ ، وَفِي اللُّغَةِ يَجُوزُ التَّعْبِيرُ بِأَحَدِ الْمُتَعَلِّقَيْنِ عَنْ الْآخَرِ . وَمِنْ فَوَائِدِ هَذَا الْخِلَافِ الثَّانِي أَنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=20993هَلْ يَحْتَاجُ الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ إلَى عَلَاقَةٍ أَمْ لَا ؟ فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَحْتَاجُ ، وَعَلَى الثَّانِي نَعَمْ . قَالَ
الْمَاوَرْدِيُّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ مِنْ " الْحَاوِي " : وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الشَّرْعَ لَاحَظَ فِيهَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ .
قُلْت : وَنَصُّ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ فِي " الْأُمِّ " صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا مَجَازَاتٌ لُغَوِيَّةٌ ، قَالَهُ
ابْنُ اللَّبَّانِ فِي تَرْتِيبِ الْأُمِّ " .