(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=172nindex.php?page=treesubj&link=28973_33197_33212_19611ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=173إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم )
بين الله تعالى حال الذين يتخذون الأنداد من دونه وأشار إلى أن سبب ذلك حب الحطام ، وارتباط مصالح المرءوسين بمصالح الرؤساء في الرزق والجاه ، وخاطب الناس كلهم بأن يأكلوا مما في الأرض إذ أباح لهم جميع خيراتها وبركاتها بشرط أن تكون حلالا طيبا ، وبين سوء حال الكافرين المقلدين الذين يقودهم الرؤساء كما يقود الراعي الغنم ; لأنهم لا استقلال لهم في عقل ولا فهم ، ثم وجه الخطاب إلى المؤمنين خاصة ; لأنهم أحق بالفهم ، وأجدر بالعلم وأحرى بالاهتداء فقال :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=172ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ) الأمر هنا للوجوب لا للإباحة ، والطيبات ما طاب كسبه من الحلال ، ويستلزم عدم تحريم شيء منها والامتناع عنها تدينا لتعذيب النفس ، وهذا تنبيه بعد ما تقدم إلى عدم الالتفات إلى أولئك الحمقى الذين أبيحت لهم خيرات الأرض
[ ص: 78 ] فطفقوا يحلون بعضها ويحرمون بعضا بوساوس شياطينهم وتقليد رؤسائهم ، وأعطوا ميزانا يميزون به الخواطر الشيطانية الضارة من غيرها ، فما أقاموا به ولا له وزنا ، وبين لهم الحرام من الحلال لكنهم نفضوا أيديهم من عز الاستقلال بالاستدلال ، وهون عليهم التقليد ذل القيود والأغلال ، فهو يقول : كلوا من هذه الطيبات ولا تضيقوا على أنفسكم مثلهم (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=172واشكروا لله ) الذي خلقها لكم وسهل عليكم أسبابها بأن تتبعوا سنته الحكيمة في طلب هذه الطيبات واستخراجها ، وفي استعمالها فيما خلقت لأجله ، وبالثناء عليه جل جلاله وعم نواله ، واعتقاد أن هذه الطيبات من فضله وإحسانه ليس لمن اتخذوا أندادا له تأثير فيها ، ولذلك قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=114إن كنتم إياه تعبدون ) أي : إن كنتم تخصونه بالعبادة وتؤمنون بانفراده بالسلطة والتدبير فاشكروا له خلق هذه النعم وإباحتها لكم ، ولا تجعلوا له أندادا تطلبون منهم الرزق أو ترجعون إليهم بالتحليل والتحريم ; فإن ذلك له وحده وإلا كنتم مشركين به كافرين لنعمه ، كالذين من قبلكم جهلوا معنى عبادة الله تعالى فاتخذوا بينهم وبينه وسطاء في طلب الرزق ، ورؤساء يشرعون لهم من الدين ما لم يشرعه ، ويحلون لهم ويحرمون عليهم ما لم يشرعه لهم .
nindex.php?page=treesubj&link=32490ومن الشكر له تعالى استعمال القوى التي غذيت بتلك الطيبات في نفع أنفسكم وأمتكم وجنسكم . وليس من الطيبات ما يأخذه شيوخ الطريق من مريديهم بل هو من الخبائث والسحت .
الأستاذ الإمام : لا يفهم هذه الآية حق فهمها إلا من كان عارفا بتاريخ الملل عند ظهور الإسلام وقبله ، فإن المشركين
وأهل الكتاب كانوا فرقا وأصنافا ، منهم من حرم على نفسه أشياء معينة بأجناسها أو أصنافا كالبحيرة والسائبة عند العرب ، وكبعض الحيوانات عند غيرهم ، وكان المذهب الشائع في
النصارى أن أقرب ما يتقرب به إلى الله تعالى تعذيب النفس واحتقارها وحرمانها من جميع الطيبات المستلذة ، واحتقار الجسد ولوازمه ، واعتقاد أن لا حياة للروح إلا بذلك ، وأن الله تعالى لا يرضى منا إلا إحياء الروح ، وكان الحرمان من الطيبات على أنواع ، منها ما هو خاص بالقديسين ، أو بالرهبان والقسيسين ، ومنها ما هو عام كأنواع الصوم الكثيرة كصوم العذراء وصوم القديسين ، وفي بعضها يحرمون اللحم والسمن دون السمك ، وفي بعضها يحرمون السمك واللبن والبيض أيضا ، وكل هذه الأحكام والشرائع قد وضعها الرؤساء وليس لها أثر ينقل عن التوراة أو عن
المسيح عليه السلام ، وبذلك كانوا أندادا ، ونزل في شأنهم (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=31اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) ( 9 : 31 ) وتقدم بيان ذلك وقد سرت إليهم هذه الأحكام بالوراثة عن آبائهم الوثنيين الذين كانوا يحرمون كثيرا من الطيبات ، ويرون أن التقرب إلى الله محصور في تعذيب النفس وترك
[ ص: 79 ] حظوظ الجسد ، إذ رأوا في دينهم وفي سيرة
المسيح وحوارييه من طلب المبالغة في الزهد ما يؤيدها .
وقد
nindex.php?page=treesubj&link=28641_30231تفضل الله تعالى على هذه الأمة بجعلها أمة وسطا تعطي الجسد حقه والروح حقها كما تقدم في تفسير (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=143وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) فأحل لنا الطيبات لتتسع دائرة نعمه الجسدية علينا ، وأمرنا بالشكر عليها ليكون لنا منها فوائد روحانية عقلية ، فلم نكن جثمانيين محضا كالأنعام ، ولا روحانيين خلصا كالملائكة ، وإنما جعلنا أناسي كملة بهذه الشريعة المعتدلة ، فله الحمد والشكر والثناء الحسن .
ظهر بهذا التقرير أن الآية متصلة بما قبلها ومتممة له . وقال بعض المفسرين - وله وجه فيما قال - : إن ما تقدم من أول السورة إلى ما قبل هذه الآية كله في القرآن والرسالة وأحوال المنكرين للداعي ، وما جاء فيها من الأحكام فإنما جاء بطريق العرض والاستطراد ، وهذه الآية ابتداء قسم جديد من الكلام ، وهو سرد الأحكام ; فإنه يذكر بعدها أحكام محرمات الطعام وأحكام الصوم والحج والقصاص والوصية والنكاح والطلاق والرجعة والعدة والإيلاء والرضاع وغير ذلك ، وينتهي هذا القسم بما قبل قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=243ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم ) ( 2 : 243 ) الآية ، ولا غرو فإن بين كل قسم وآخر في القرآن من التناسب مثل ما بين كل آية وأخرى في القسم الواحد (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=1كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ) ( 11 : 1 ) .
بعد ذكر إباحة الطيبات ذكر المحرمات فقال تبارك اسمه : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=173إنما حرم عليكم الميتة ) هذا حصر
nindex.php?page=treesubj&link=33212لمحرمات الطعام من الحيوان بصيغة ( ( إنما ) ) الدالة على ما سبق الإعلام به وهو آية سورة الأنعام التي ورد فيها حصر التحريم في هذه الأربعة بصيغة الإثبات بعد النفي ، وإنما حرم الميتة لما في الطباع السليمة من استقذارها ، ولما يتوقع من ضررها ، فإنها إما أن تكون ماتت بمرض سابق أو بعلة عارضة ، وكلاهما لا يؤمن من ضرره ; لأن المرض قد يكون معديا والموت الفجائي يقتضي بقاء بعض الأشياء الضارة في الجسم كالكربون الذي يكون سبب الاختناق ، هذا ما قاله الأستاذ الإمام . ويزاد عليه عدم القصد إلى إماتتها بعمل الإنسان ، وهو سبب الفرق بين المخنوقة والمنخنقة التي هي في معنى الميتة حتف أنفها ; ولذلك كان في معنى الميتة كل ما زالت حياته بغير قصد الزكاة كالمنخنقة والموقوذة - إلى آخر ما ذكر في آية المائدة . ( والدم ) أي : المسفوح كما في آية الأنعام ، فإنه قذر لا طيب ، وضار كالميتة (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=173ولحم الخنزير ) فإنه قذر ; لأن أشهى غذاء الخنزير إليه القاذورات والنجاسات ، وهو ضار
[ ص: 80 ] في جميع الأقاليم ولا سيما الحارة كما ثبت بالتجربة ، وأكل لحمه من أسباب الدودة الوحيدة القتالة ، ويقال إن له تأثيرا سيئا في العفة والغيرة (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3وما أهل لغير الله به ) وهو ما يذبح ويقدم للأصنام أو غيرها مما يعبد . والمنع من هذا ديني محض لحماية التوحيد ، لأنه من أعمال الوثنية فكل من أهل لغير الله على ذبيحة فإنه يتقرب إلى من أهل باسمه تقرب عبادة ، وذلك من الإشراك والاعتماد على غير الله تعالى .
وقد ذكر الفقهاء أن كل
nindex.php?page=treesubj&link=16989_16975ما ذكر عليه اسم غير الله ولو مع اسم الله فهو محرم ، وعد منه الأستاذ الإمام ما يجري في الأرياف كثيرا من قولهم عند الذبح - لا سيما ذبح المنذور - بسم الله ، الله أكبر ، يا سيد ، يدعون
السيد البدوي أن يلتفت إليهم ويتقبل النذر ويقضي حاجة صاحبه ، ( قال ) وكيفما أولته فهو محرم ، ومثل ذكر السيد ذكر الرسول أو
المسيح ; إذ لا يجوز أن يذكر عند الذبح غير اسم المنعم بالبهيمة المبيح لها ، فهي تذبح وتؤكل باسمه لا يشاركه في ذلك سواه ، ولا يتقرب بها إلى من عداه ممن لم يخلق ولم ينعم ولم يبح ذلك ; لأنه غير واضع للدين (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=173فمن اضطر ) إلى الأكل مما ذكر بأن لم يجد ما يسد به رمقه سواه (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=173غير باغ ) له أي : غير طالب له ، راغب فيه لذاته (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=173ولا عاد ) متجاوز قدر الضرورة (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=173فلا إثم عليه ) لأن
nindex.php?page=treesubj&link=16905الإلقاء بنفسه إلى التهلكة بالموت جوعا أشد ضررا من أكل الميتة أو الدم أو لحم الخنزير ، بل الضرر في ترك الأكل محقق ، وهو في فعله مظنون ، وربما كانت شدة الحاجة إلى الأكل مع الاكتفاء بسد الرمق مانعة من الضرر ، وأما ما أهل به لغير الله فمن أكل منه مضطرا فهو لا يقصد إجازة عمل الوثنية ، ولا استحسانه (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=173إن الله غفور رحيم ) إذ حرم على عباده الضار ، وجعل الضرورات بقدرها ، لينتفي الحرج والعسر عنهم ، ووكل تحديدها إلى اجتهادهم ، فهو يغفر لهم خطأهم فيه لتعذر ضبطه .
وفسر
الجلال كلمة ( باغ ) بالخارج على المسلمين و ( عاد ) بالمعتدي عليهم بقطع الطريق ( قال ) : ويلحق بهم كل عاص بسفره كالآبق والمكاس ، وعليه
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي .
قال الأستاذ الإمام : ولا خلاف بين المسلمين في أن العاصي كغيره يحرم عليه إلقاء نفسه في التهلكة ، ويجب عليه توقي الضرر ، ويجب علينا دفعه عنه إن استطعنا . فكيف لا تتناوله إباحة الرخص ؟ ! ثم إن المناسب للسياق أن تحدد الضرورة التي تجيز أكل المحرم ، وتفسير الباغي والعادي بما ذكرنا هو المحدد لها ، وهو موافق للغة كقوله تعالى حكاية عن إخوة
يوسف : ( ما نبغي ) وفي الحديث الصحيح ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918654يا باغي الخير هلم ) ) وفي التنزيل (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=28ولا تعد عيناك عنهم ) ( 18 : 28 ) أي : لا تتجاوزهم إلى غيرهم ، فالكلام في تحديد الضرورة وتمام بيان حكم ما يحل ويحرم من الأكل ، لا في السياسة وعقوبة الخارجين على الدولة والمؤذين للأمة . وإنما كان هذا التحديد لازما لئلا يتبع الناس أهواءهم في تفسير الاضطرار إذا هو وكل إليهم بلا حد ولا قيد ، فيزعم هذا أنه مضطر وليس
[ ص: 81 ] بمضطر ، ويذهب ذلك بشهوته إلى ما وراء حد الضرورة ، فعلم من قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=173غير باغ ولا عاد ) كيف تقدر الضرورة بقدرها ، والأحكام عامة يخاطب بها كل مكلف لا يصح استثناء أحد إلا بنص صريح من الشارع ، ويذكر بعض المفسرين في هذا المقام مسائل خلافية في الميتة كحل الانتفاع بجلدها وغير ذلك مما ليس يؤكل ، وقد قلنا : إننا لا نتعرض في بيان القرآن إلى المسائل الخلافية التي لا تدل عليها عبارته ، إذ يجب أن يبقى دائما فوق كل خلاف .
هذا ملخص ما قاله الأستاذ الإمام في الدرس ، واقتصرت عليه في الطبعة الأولى وقرأه هو فيها ، وأقول الآن : إنه رحمه الله كانت خطته الغالبة فيه ترك ذكر المسائل الخلافية التي لا يدل عليها القرآن ، وهذا غير الخلاف في مدلول عباراته كما هنا ، وربما يكون ذكر الخلاف وسيلة إلى بيان كونه فوق كل خلاف .
وقد زاد المفسرون على هذه المحرمات - تبعا لفقهائهم - محرمات أخرى استدلوا عليها بأحاديث آحادية في دلالتها نظر ، وبعموم تحريم الخبائث وهي معارضة بما في هذه الآية وغيرها من الحصر ، وقد حققت هذه المسألة في تفسير (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=145قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم ) ( 6 : 145 ) إلخ . وفندت ما قيل في تأويلها بما ظهر به أن القرآن فوق كل خلاف .
ومن مباحث البلاغة في الآية أن ذكر ( غفور ) له فيها نكتة دقيقة لا تظهر إلا لصاحب الذوق الصحيح في اللغة ، فقد يقال : إن ذكر وصف الرحيم ينبئ بأن هذا التشريع والتخفيف بالرخصة من آثار الرحمة الإلهية ، وأما الغفور فإنما يناسب أن يذكر في مقام العفو عن الزلات والتوبة عن السيئات . والجواب عن هذا أن ما ذكر في تحديد الاضطرار دقيق جدا ، ومرجعه إلى اجتهاد المضطر ، ويصعب على من خارت قواه من الجوع أن يعرف القدر الذي يمسك الرمق ويقي من الهلاك بالتدقيق وأن يقف عنده ، والصادق الإيمان يخشى أن يقع في وصف الباغي والعادي بغير اختياره ، فالله تعالى يبشره بأن الخطأ المتوقع في الاجتهاد في ذلك مغفور له ما لم يتعمد تجاوز الحدود . والله أعلم .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=172nindex.php?page=treesubj&link=28973_33197_33212_19611يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=173إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )
بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى حَالَ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْأَنْدَادَ مِنْ دُونِهِ وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ حُبُّ الْحُطَامِ ، وَارْتِبَاطُ مَصَالِحِ الْمَرْءُوسِينَ بِمَصَالِحِ الرُّؤَسَاءِ فِي الرِّزْقِ وَالْجَاهِ ، وَخَاطَبَ النَّاسَ كُلَّهُمْ بِأَنْ يَأْكُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ إِذْ أَبَاحَ لَهُمْ جَمِيعَ خَيْرَاتِهَا وَبَرَكَاتِهَا بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ حَلَالًا طَيِّبًا ، وَبَيَّنَ سُوءَ حَالِ الْكَافِرِينَ الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ يَقُودُهُمُ الرُّؤَسَاءُ كَمَا يَقُودُ الرَّاعِي الْغَنَمَ ; لِأَنَّهُمْ لَا اسْتِقْلَالَ لَهُمْ فِي عَقْلٍ وَلَا فَهْمٍ ، ثُمَّ وَجَّهَ الْخِطَابَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً ; لِأَنَّهُمْ أَحَقُّ بِالْفَهْمِ ، وَأَجْدَرُ بِالْعِلْمِ وَأَحْرَى بِالِاهْتِدَاءِ فَقَالَ :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=172يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ) الْأَمْرُ هُنَا لِلْوُجُوبِ لَا لِلْإِبَاحَةِ ، وَالطَّيِّبَاتُ مَا طَابَ كَسْبُهُ مِنَ الْحَلَالِ ، وَيَسْتَلْزِمُ عَدَمُ تَحْرِيمِ شَيْءٍ مِنْهَا وَالِامْتِنَاعُ عَنْهَا تَدَيُّنًا لِتَعْذِيبِ النَّفْسِ ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ إِلَى عَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَى أُولَئِكَ الْحَمْقَى الَّذِينَ أُبِيحَتْ لَهُمْ خَيْرَاتُ الْأَرْضِ
[ ص: 78 ] فَطَفِقُوا يُحِلُّونَ بَعْضَهَا وَيُحَرِّمُونَ بَعْضًا بِوَسَاوِسِ شَيَاطِينِهِمْ وَتَقْلِيدِ رُؤَسَائِهِمْ ، وَأُعْطُوا مِيزَانًا يُمَيِّزُونَ بِهِ الْخَوَاطِرَ الشَّيْطَانِيَّةَ الضَّارَّةَ مِنْ غَيْرِهَا ، فَمَا أَقَامُوا بِهِ وَلَا لَهُ وَزْنًا ، وَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَرَامَ مِنَ الْحَلَالِ لَكِنَّهُمْ نَفَضُوا أَيْدِيهِمْ مِنْ عِزِّ الِاسْتِقْلَالِ بِالِاسْتِدْلَالِ ، وَهَوَّنَ عَلَيْهِمُ التَّقْلِيدُ ذُلَّ الْقُيُودِ وَالْأَغْلَالِ ، فَهُوَ يَقُولُ : كُلُوا مِنْ هَذِهِ الطَّيِّبَاتِ وَلَا تُضَيِّقُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ مِثْلَهُمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=172وَاشْكُرُوا لِلَّهِ ) الَّذِي خَلَقَهَا لَكُمْ وَسَهَّلَ عَلَيْكُمْ أَسْبَابَهَا بِأَنْ تَتَّبِعُوا سُنَّتَهُ الْحَكِيمَةَ فِي طَلَبِ هَذِهِ الطَّيِّبَاتِ وَاسْتِخْرَاجِهَا ، وَفِي اسْتِعْمَالِهَا فِيمَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ ، وَبِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ جَلَّ جَلَالُهُ وَعَمَّ نَوَالُهُ ، وَاعْتِقَادِ أَنَّ هَذِهِ الطَّيِّبَاتِ مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ لَيْسَ لِمَنِ اتُّخِذُوا أَنْدَادًا لَهُ تَأْثِيرٌ فِيهَا ، وَلِذَلِكَ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=114إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) أَيْ : إِنْ كُنْتُمْ تَخُصُّونَهُ بِالْعِبَادَةِ وَتُؤْمِنُونَ بِانْفِرَادِهِ بِالسُّلْطَةِ وَالتَّدْبِيرِ فَاشْكُرُوا لَهُ خَلْقَ هَذِهِ النِّعَمِ وَإِبَاحَتَهَا لَكُمْ ، وَلَا تَجْعَلُوا لَهُ أَنْدَادًا تَطْلُبُونَ مِنْهُمُ الرِّزْقَ أَوْ تَرْجِعُونَ إِلَيْهِمْ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ ; فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ وَحْدَهُ وَإِلَّا كُنْتُمْ مُشْرِكِينَ بِهِ كَافِرِينَ لِنِعَمِهِ ، كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ جَهِلُوا مَعْنَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَاتَّخَذُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ وُسَطَاءَ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ ، وَرُؤَسَاءَ يَشْرَعُونَ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَشْرَعْهُ ، وَيُحِلُّونَ لَهُمْ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ مَا لَمْ يَشْرَعْهُ لَهُمْ .
nindex.php?page=treesubj&link=32490وَمِنَ الشُّكْرِ لَهُ تَعَالَى اسْتِعْمَالُ الْقُوَى الَّتِي غُذِّيَتْ بِتِلْكَ الطَّيِّبَاتِ فِي نَفْعِ أَنْفُسِكُمْ وَأُمَّتِكُمْ وَجِنْسِكُمْ . وَلَيْسَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ مَا يَأْخُذُهُ شُيُوخُ الطَّرِيقِ مِنْ مُرِيدِيهِمْ بَلْ هُوَ مِنَ الْخَبَائِثِ وَالسُّحْتِ .
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : لَا يَفْهَمُ هَذِهِ الْآيَةَ حَقَّ فَهْمِهَا إِلَّا مَنْ كَانَ عَارِفًا بِتَارِيخِ الْمِلَلِ عِنْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَقَبْلَهُ ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ
وَأَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا فِرَقًا وَأَصْنَافًا ، مِنْهُمْ مَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ أَشْيَاءَ مُعَيَّنَةً بِأَجْنَاسِهَا أَوْ أَصْنَافًا كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ ، وَكَبَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ عِنْدَ غَيْرِهِمْ ، وَكَانَ الْمَذْهَبُ الشَّائِعُ فِي
النَّصَارَى أَنَّ أَقْرَبَ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَعْذِيبُ النَّفْسِ وَاحْتِقَارُهَا وَحِرْمَانُهَا مِنْ جَمِيعِ الطَّيِّبَاتِ الْمُسْتَلَذَّةِ ، وَاحْتِقَارُ الْجَسَدِ وَلَوَازِمِهِ ، وَاعْتِقَادُ أَنْ لَا حَيَاةَ لِلرُّوحِ إِلَّا بِذَلِكَ ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَرْضَى مِنَّا إِلَّا إِحْيَاءَ الرُّوحِ ، وَكَانَ الْحِرْمَانُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ عَلَى أَنْوَاعٍ ، مِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِالْقِدِّيسِينَ ، أَوْ بِالرُّهْبَانِ وَالْقِسِّيسِينَ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ عَامُّ كَأَنْوَاعِ الصَّوْمِ الْكَثِيرَةِ كَصَوْمِ الْعَذْرَاءِ وَصَوْمِ الْقِدِّيسِينَ ، وَفِي بَعْضِهَا يُحَرِّمُونَ اللَّحْمَ وَالسَّمْنَ دُونَ السَّمَكِ ، وَفِي بَعْضِهَا يُحَرِّمُونَ السَّمَكَ وَاللَّبَنَ وَالْبَيْضَ أَيْضًا ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ قَدْ وَضَعَهَا الرُّؤَسَاءُ وَلَيْسَ لَهَا أَثَرٌ يُنْقَلُ عَنِ التَّوْرَاةِ أَوْ عَنِ
الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَبِذَلِكَ كَانُوا أَنْدَادًا ، وَنَزَلَ فِي شَأْنِهِمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=31اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ) ( 9 : 31 ) وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ وَقَدْ سَرَتْ إِلَيْهِمْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ بِالْوِرَاثَةِ عَنْ آبَائِهِمُ الْوَثَنِيِّينَ الَّذِينَ كَانُوا يُحَرِّمُونَ كَثِيرًا مِنَ الطَّيِّبَاتِ ، وَيَرَوْنَ أَنَّ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ مَحْصُورٌ فِي تَعْذِيبِ النَّفْسِ وَتَرْكِ
[ ص: 79 ] حُظُوظِ الْجَسَدِ ، إِذْ رَأَوْا فِي دِينِهِمْ وَفِي سِيرَةِ
الْمَسِيحِ وَحَوَارِيِّيهِ مِنْ طَلَبِ الْمُبَالَغَةَ فِي الزُّهْدِ مَا يُؤَيِّدُهَا .
وَقَدْ
nindex.php?page=treesubj&link=28641_30231تَفَضَّلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ بِجَعْلِهَا أُمَّةً وَسَطًا تُعْطِي الْجَسَدَ حَقَّهُ وَالرُّوحَ حَقَّهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=143وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ) فَأَحَلَّ لَنَا الطَّيِّبَاتِ لِتَتَّسِعَ دَائِرَةُ نِعَمِهِ الْجَسَدِيَّةِ عَلَيْنَا ، وَأَمَرَنَا بِالشُّكْرِ عَلَيْهَا لِيَكُونَ لَنَا مِنْهَا فَوَائِدُ رُوحَانِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ ، فَلَمْ نَكُنْ جُثْمَانِيِّينَ مَحْضًا كَالْأَنْعَامِ ، وَلَا رُوحَانِيِّينَ خُلَّصًا كَالْمَلَائِكَةِ ، وَإِنَّمَا جَعَلَنَا أَنَاسِيَ كَمَلَةً بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُعْتَدِلَةِ ، فَلَهُ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ وَالثَّنَاءُ الْحَسَنُ .
ظَهَرَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّ الْآيَةَ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا وَمُتَمِّمَةٌ لَهُ . وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ - وَلَهُ وَجْهٌ فِيمَا قَالَ - : إِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ كُلُّهُ فِي الْقُرْآنِ وَالرِّسَالَةِ وَأَحْوَالِ الْمُنْكِرِينَ لِلدَّاعِي ، وَمَا جَاءَ فِيهَا مِنَ الْأَحْكَامِ فَإِنَّمَا جَاءَ بِطَرِيقِ الْعَرْضِ وَالِاسْتِطْرَادِ ، وَهَذِهِ الْآيَةُ ابْتِدَاءُ قِسْمٍ جَدِيدٍ مِنَ الْكَلَامِ ، وَهُوَ سَرْدُ الْأَحْكَامِ ; فَإِنَّهُ يَذْكُرُ بَعْدَهَا أَحْكَامَ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ وَأَحْكَامَ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْقِصَاصِ وَالْوَصِيَّةِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ وَالْعِدَّةِ وَالْإِيلَاءِ وَالرَّضَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَيَنْتَهِي هَذَا الْقِسْمُ بِمَا قَبْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=243أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ ) ( 2 : 243 ) الْآيَةَ ، وَلَا غَرْوَ فَإِنَّ بَيْنَ كُلِّ قِسْمٍ وَآخَرَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ التَّنَاسُبِ مِثْلُ مَا بَيْنَ كُلِّ آيَةٍ وَأُخْرَى فِي الْقِسْمِ الْوَاحِدِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=1كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) ( 11 : 1 ) .
بَعْدَ ذِكْرَ إِبَاحَةِ الطَّيِّبَاتِ ذَكَرَ الْمُحَرَّمَاتِ فَقَالَ تَبَارَكَ اسْمُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=173إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ ) هَذَا حَصْرٌ
nindex.php?page=treesubj&link=33212لِمُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ مِنَ الْحَيَوَانِ بِصِيغَةِ ( ( إِنَّمَا ) ) الدَّالَّةِ عَلَى مَا سَبَقَ الْإِعْلَامُ بِهِ وَهُوَ آيَةُ سُورَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا حَصْرُ التَّحْرِيمِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ بِصِيغَةِ الْإِثْبَاتِ بَعْدَ النَّفْيِ ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ الْمَيْتَةَ لِمَا فِي الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ مِنِ اسْتِقْذَارِهَا ، وَلِمَا يُتَوَقَّعُ مِنْ ضَرَرِهَا ، فَإِنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَاتَتْ بِمَرَضٍ سَابِقٍ أَوْ بِعِلَّةٍ عَارِضَةٍ ، وَكِلَاهُمَا لَا يُؤْمَنُ مِنْ ضَرَرِهِ ; لِأَنَّ الْمَرَضَ قَدْ يَكُونُ مُعْدِيًا وَالْمَوْتُ الْفُجَائِيُّ يَقْتَضِي بَقَاءَ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الضَّارَّةِ فِي الْجِسْمِ كَالْكَرْبُونِ الَّذِي يَكُونُ سَبَبَ الِاخْتِنَاقِ ، هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ . وَيُزَادُ عَلَيْهِ عَدَمُ الْقَصْدِ إِلَى إِمَاتَتِهَا بِعَمَلِ الْإِنْسَانِ ، وَهُوَ سَبَبُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَخْنُوقَةِ وَالْمُنْخَنِقَةِ الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَى الْمَيْتَةِ حَتْفَ أَنْفِهَا ; وَلِذَلِكَ كَانَ فِي مَعْنَى الْمَيْتَةِ كُلُّ مَا زَالَتْ حَيَاتُهُ بِغَيْرِ قَصْدِ الزَّكَاةِ كَالْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ - إِلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ . ( وَالدَّمَ ) أَيِ : الْمَسْفُوحَ كَمَا فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ ، فَإِنَّهُ قَذِرٌ لَا طَيِّبٌ ، وَضَارٌّ كَالْمَيْتَةِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=173وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ ) فَإِنَّهُ قَذِرٌ ; لِأَنَّ أَشْهَى غِذَاءِ الْخِنْزِيرِ إِلَيْهِ الْقَاذُورَاتُ وَالنَّجَاسَاتُ ، وَهُوَ ضَارٌّ
[ ص: 80 ] فِي جَمِيعِ الْأَقَالِيمِ وَلَا سِيَّمَا الْحَارَةَ كَمَا ثَبَتَ بِالتَّجْرِبَةِ ، وَأَكْلُ لَحْمِهِ مِنْ أَسْبَابِ الدُّودَةِ الْوَحِيدَةِ الْقَتَّالَةِ ، وَيُقَالُ إِنَّ لَهُ تَأْثِيرًا سَيِّئًا فِي الْعِفَّةِ وَالْغَيْرَةِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ) وَهُوَ مَا يُذْبَحُ وَيُقَدَّمُ لِلْأَصْنَامِ أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا يُعْبَدُ . وَالْمَنْعُ مِنْ هَذَا دِينِيٌّ مَحْضٌ لِحِمَايَةِ التَّوْحِيدِ ، لِأَنَّهُ مِنْ أَعْمَالِ الْوَثَنِيَّةِ فَكُلُّ مَنْ أَهَلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ عَلَى ذَبِيحَةٍ فَإِنَّهُ يَتَقَرَّبُ إِلَى مَنْ أَهَلَّ بِاسْمِهِ تَقَرُّبَ عِبَادَةٍ ، وَذَلِكَ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ كُلَّ
nindex.php?page=treesubj&link=16989_16975مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ وَلَوْ مَعَ اسْمِ اللَّهِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ ، وَعَدَّ مِنْهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا يَجْرِي فِي الْأَرْيَافِ كَثِيرًا مِنْ قَوْلِهِمْ عِنْدَ الذَّبْحِ - لَا سِيَّمَا ذَبْحَ الْمَنْذُورِ - بِسْمِ اللَّهِ ، اللَّهُ أَكْبَرُ ، يَا سَيِّدُ ، يَدْعُونَ
السَّيِّدَ الْبَدَوِيَّ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَيْهِمْ وَيَتَقَبَّلَ النَّذْرَ وَيَقْضِيَ حَاجَةَ صَاحِبِهِ ، ( قَالَ ) وَكَيْفَمَا أَوَّلْتَهُ فَهُوَ مُحَرَّمُ ، وَمِثْلُ ذِكْرِ السَّيِّدِ ذِكْرُ الرَّسُولِ أَوِ
الْمَسِيحِ ; إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ عِنْدَ الذَّبْحِ غَيْرُ اسْمِ الْمُنْعِمِ بِالْبَهِيمَةِ الْمُبِيحِ لَهَا ، فَهِيَ تُذْبَحُ وَتُؤْكَلُ بِاسْمِهِ لَا يُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ سِوَاهُ ، وَلَا يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى مَنْ عَدَاهُ مِمَّنْ لَمْ يَخْلُقْ وَلَمْ يُنْعِمْ وَلَمْ يُبِحْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ وَاضِعٍ لِلدِّينِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=173فَمَنِ اضْطُرَّ ) إِلَى الْأَكْلِ مِمَّا ذُكِرَ بِأَنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ سِوَاهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=173غَيْرَ بَاغٍ ) لَهُ أَيْ : غَيْرُ طَالِبٍ لَهُ ، رَاغِبٍ فِيهِ لِذَاتِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=173وَلَا عَادٍ ) مُتَجَاوِزٍ قَدْرَ الضَّرُورَةِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=173فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=16905الْإِلْقَاءَ بِنَفْسِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ بِالْمَوْتِ جُوعًا أَشَدُّ ضَرَرًا مَنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ أَوِ الدَّمِ أَوْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ ، بَلِ الضَّرَرُ فِي تَرْكِ الْأَكْلِ مُحَقَّقٌ ، وَهُوَ فِي فِعْلِهِ مَظْنُونٌ ، وَرُبَّمَا كَانَتْ شِدَّةُ الْحَاجَةِ إِلَى الْأَكْلِ مَعَ الِاكْتِفَاءِ بِسَدِّ الرَّمَقِ مَانِعَةٌ مِنَ الضَّرَرِ ، وَأَمَّا مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ أَكَلَ مِنْهُ مُضْطَرًّا فَهُوَ لَا يَقْصِدُ إِجَازَةَ عَمَلِ الْوَثَنِيَّةِ ، وَلَا اسْتِحْسَانَهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=173إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) إِذْ حَرَّمَ عَلَى عِبَادِهِ الضَّارَّ ، وَجَعَلَ الضَّرُورَاتِ بِقَدْرِهَا ، لِيَنْتَفِيَ الْحَرَجُ وَالْعُسْرُ عَنْهُمْ ، وَوَكَّلَ تَحْدِيدَهَا إِلَى اجْتِهَادِهِمْ ، فَهُوَ يَغْفِرُ لَهُمْ خَطَأَهُمْ فِيهِ لِتَعَذُّرِ ضَبْطِهِ .
وَفَسَّرَ
الْجَلَالُ كَلِمَةَ ( بَاغٍ ) بِالْخَارِجِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَ ( عَادٍ ) بِالْمُعْتَدِي عَلَيْهِمْ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ ( قَالَ ) : وَيَلْحَقُ بِهِمْ كُلُّ عَاصٍ بِسَفَرِهِ كَالْآبِقِ وَالْمِكَاسِ ، وَعَلَيْهِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ .
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّ الْعَاصِيَ كَغَيْرِهِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إِلْقَاءُ نَفْسِهِ فِي التَّهْلُكَةِ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ تَوَقِّي الضَّرَرِ ، وَيَجِبُ عَلَيْنَا دَفْعُهُ عَنْهُ إِنِ اسْتَطَعْنَا . فَكَيْفَ لَا تَتَنَاوَلُهُ إِبَاحَةُ الرُّخَصِ ؟ ! ثُمَّ إِنَّ الْمُنَاسِبَ لِلسِّيَاقِ أَنْ تُحَدَّدَ الضَّرُورَةُ الَّتِي تُجِيزُ أَكْلَ الْمُحَرَّمِ ، وَتَفْسِيرُ الْبَاغِي وَالْعَادِي بِمَا ذَكَرْنَا هُوَ الْمُحَدِّدُ لَهَا ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلُّغَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِخْوَةِ
يُوسُفَ : ( مَا نَبْغِي ) وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918654يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ هَلُمَّ ) ) وَفِي التَّنْزِيلِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=28وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ) ( 18 : 28 ) أَيْ : لَا تَتَجَاوَزْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ ، فَالْكَلَامُ فِي تَحْدِيدِ الضَّرُورَةِ وَتَمَامِ بَيَانِ حُكْمِ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنَ الْأَكْلِ ، لَا فِي السِّيَاسَةِ وَعُقُوبَةِ الْخَارِجِينَ عَلَى الدَّوْلَةِ وَالْمُؤْذِينَ لِلْأُمَّةِ . وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا التَّحْدِيدُ لَازِمًا لِئَلَّا يَتَّبِعَ النَّاسُ أَهْوَاءَهُمْ فِي تَفْسِيرِ الِاضْطِرَارِ إِذَا هُوَ وُكِّلَ إِلَيْهِمْ بِلَا حَدٍّ وَلَا قَيْدٍ ، فَيَزْعُمُ هَذَا أَنَّهُ مُضْطَرٌّ وَلَيْسَ
[ ص: 81 ] بِمُضْطَرٍّ ، وَيَذْهَبُ ذَلِكَ بِشَهْوَتِهِ إِلَى مَا وَرَاءَ حَدِّ الضَّرُورَةِ ، فَعُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=173غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ ) كَيْفَ تُقَدَّرُ الضَّرُورَةُ بِقَدْرِهَا ، وَالْأَحْكَامُ عَامَّةٌ يُخَاطَبُ بِهَا كُلُّ مُكَلَّفٍ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ أَحَدٍ إِلَّا بِنَصٍّ صَرِيحٍ مِنَ الشَّارِعِ ، وَيَذْكُرُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَسَائِلَ خِلَافِيَّةً فِي الْمَيْتَةِ كَحِلِّ الِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ يُؤْكَلُ ، وَقَدْ قُلْنَا : إِنَّنَا لَا نَتَعَرَّضُ فِي بَيَانِ الْقُرْآنِ إِلَى الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ الَّتِي لَا تَدُلُّ عَلَيْهَا عِبَارَتُهُ ، إِذْ يَجِبُ أَنْ يَبْقَى دَائِمًا فَوْقَ كُلِّ خِلَافٍ .
هَذَا مُلَخَّصُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ ، وَاقْتَصَرْتُ عَلَيْهِ فِي الطَّبْعَةِ الْأُولَى وَقَرَأَهُ هُوَ فِيهَا ، وَأَقُولُ الْآنَ : إِنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَتْ خُطَّتُهُ الْغَالِبَةُ فِيهِ تَرْكَ ذِكْرِ الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ الَّتِي لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ ، وَهَذَا غَيْرُ الْخِلَافِ فِي مَدْلُولِ عِبَارَاتِهِ كَمَا هُنَا ، وَرُبَّمَا يَكُونُ ذِكْرُ الْخِلَافِ وَسِيلَةً إِلَى بَيَانِ كَوْنِهِ فَوْقَ كُلِّ خِلَافٍ .
وَقَدْ زَادَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ - تَبَعًا لِفُقَهَائِهِمْ - مُحَرَّمَاتٍ أُخْرَى اسْتَدَلُّوا عَلَيْهَا بِأَحَادِيثَ آحَادِيَّةٍ فِي دَلَالَتِهَا نَظَرٌ ، وَبِعُمُومِ تَحْرِيمِ الْخَبَائِثِ وَهِيَ مُعَارَضَةٌ بِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْحَصْرِ ، وَقَدْ حَقَّقْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي تَفْسِيرِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=145قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ ) ( 6 : 145 ) إِلَخْ . وَفَنَّدْتُ مَا قِيلَ فِي تَأْوِيلِهَا بِمَا ظَهَرَ بِهِ أَنَّ الْقُرْآنَ فَوْقَ كُلِّ خِلَافٍ .
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ فِي الْآيَةِ أَنَّ ذِكْرَ ( غَفُورٌ ) لَهُ فِيهَا نُكْتَةٌ دَقِيقَةٌ لَا تَظْهَرُ إِلَّا لِصَاحِبِ الذَّوْقِ الصَّحِيحِ فِي اللُّغَةِ ، فَقَدْ يُقَالُ : إِنَّ ذِكْرَ وَصْفِ الرَّحِيمِ يُنْبِئُ بِأَنَّ هَذَا التَّشْرِيعَ وَالتَّخْفِيفَ بِالرُّخْصَةِ مِنْ آثَارِ الرَّحْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ ، وَأَمَّا الْغَفُورُ فَإِنَّمَا يُنَاسِبُ أَنْ يُذْكَرَ فِي مَقَامِ الْعَفْوِ عَنِ الزَّلَّاتِ وَالتَّوْبَةِ عَنِ السَّيِّئَاتِ . وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي تَحْدِيدِ الِاضْطِرَارِ دَقِيقٌ جِدًّا ، وَمَرْجِعُهُ إِلَى اجْتِهَادِ الْمُضْطَرِّ ، وَيَصْعُبُ عَلَى مَنْ خَارَتْ قُوَاهُ مِنَ الْجُوعِ أَنْ يَعْرِفَ الْقَدْرَ الَّذِي يُمْسِكُ الرَّمَقَ وَيَقِي مِنَ الْهَلَاكِ بِالتَّدْقِيقِ وَأَنْ يَقِفَ عِنْدَهُ ، وَالصَّادِقُ الْإِيمَانِ يَخْشَى أَنْ يَقَعَ فِي وَصْفِ الْبَاغِي وَالْعَادِي بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ، فَاللَّهُ تَعَالَى يُبَشِّرُهُ بِأَنَّ الْخَطَأَ الْمُتَوَقَّعَ فِي الِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ مَغْفُورٌ لَهُ مَا لَمْ يَتَعَمَّدْ تَجَاوُزَ الْحُدُودِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .