فصل : فإذا تقرر أن هذه الآية مختصة بالمحاربين من قطاع الطريق ، ومخيفي السبل الذين يعترضون السابلة ، مجاهرة ومحاربة ، فيأخذون أموالهم ويقتلون نفوسهم ، فقد حكم الله تعالى فيهم بأربعة أحكام ، ذكرها في الآية فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=33أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض [ المائدة : 33 ] فاختلف الفقهاء في هذه الأحكام الأربعة التي جعلها الله تعالى عقوبة لهم ،
nindex.php?page=treesubj&link=9855هل وجبت على طريق التخيير في أن يفعل الإمام منها ما رآه صلاحا ، أو وجبت على طريق الترتيب ، فتكون كل عقوبة منها في مقابلة ذنب لا يتعداه إلى غيره ؟ اختلف فيه أهل العلم على قولين : أحدهما : قاله
سعيد بن المسيب ،
ومجاهد ،
وعطاء ،
والنخعي ،
ومالك وداود في
أهل الظاهر : أنها وجبت على طريق التخيير في أن يفعل الإمام منها ما شاء : لقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=33أن يقتلوا أو يصلبوا [ المائدة : 33 ] و " أو " تدخل في الكلام للتخيير في الأوامر ، والشك في الأخبار ، وهذا أمر فكانت للتخيير ، كهي في كفارة اليمين . والثاني : قاله
الشافعي وأبو حنيفة : أنها وجبت على طريق الترتيب : لثلاثة أمور : أحدها : أن اختلاف العقوبات توجب اختلاف أسبابها . والثاني : أن التخيير مفض إلى أن يعاقب من قل جرمه بأغلظ العقوبات ، ومن كثر جرمه بأخف العقوبات ، والترتيب يمنع من هذا التناقض : لأنه يعاقب في أقل الجرم بأخف العقوبات ، وفي كثرة الجرم بأغلظها ، فكان أولى .
[ ص: 354 ] والثالث : أنه لما بدئ فيها بالأغلظ ، وجب أن يكون على ترتيب ، مثل كفارة القتل والظهار . ولو كانت على التخيير لبدئ فيها بالأخف من كفارة اليمين .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُحَارِبِينَ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ، وَمُخِيفِي السُّبُلِ الَّذِينَ يَعْتَرِضُونَ السَّابِلَةَ ، مُجَاهَرَةً وَمُحَارَبَةً ، فَيَأْخُذُونَ أَمْوَالَهُمْ وَيَقْتُلُونَ نُفُوسَهُمْ ، فَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ بِأَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ ، ذَكَرَهَا فِي الْآيَةِ فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=33أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [ الْمَائِدَةِ : 33 ] فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْأَرْبَعَةِ التيِ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى عُقُوبَةً لَهُمْ ،
nindex.php?page=treesubj&link=9855هَلْ وَجَبَتْ عَلَى طَرِيقِ التَّخْيِيرِ فِي أَنْ يَفْعَلَ الْإِمَامُ مِنْهَا مَا رَآهُ صَلَاحًا ، أَوْ وَجَبَتْ عَلَى طَرِيقِ التَّرْتِيبِ ، فَتَكُونُ كُلُّ عُقُوبَةٍ مِنْهَا فِي مُقَابَلَةِ ذَنْبٍ لَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ ؟ اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَالَهُ
سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ،
وَمُجَاهِدٌ ،
وَعَطَاءٌ ،
وَالنَّخَعِيُّ ،
وَمَالِكٌ وَدَاوُدُ فِي
أَهْلِ الظَّاهِرِ : أَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى طَرِيقِ التَّخْيِيرِ فِي أَنْ يَفْعَلَ الْإِمَامُ مِنْهَا مَا شَاءَ : لِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=33أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا [ الْمَائِدَةِ : 33 ] وَ " أَوْ " تَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ لِلتَّخْيِيرِ فِي الْأَوَامِرِ ، وَالشَّكِّ فِي الْأَخْبَارِ ، وَهَذَا أَمْرٌ فَكَانَتْ لِلتَّخْيِيرِ ، كَهِيَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ . وَالثَّانِي : قَالَهُ
الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : أَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى طَرِيقِ التَّرْتِيبِ : لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ اخْتِلَافَ الْعُقُوبَاتِ تُوجِبُ اخْتِلَافَ أَسْبَابِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ التَّخْيِيرَ مُفْضٍ إِلَى أَنْ يُعَاقَبَ مَنْ قَلَّ جُرْمُهُ بِأَغْلَظِ الْعُقُوبَاتِ ، وَمَنْ كَثُرَ جُرْمُهُ بِأَخَفِّ الْعُقُوبَاتِ ، وَالتَّرْتِيبُ يَمْنَعُ مِنْ هَذَا التَّنَاقُضِ : لِأَنَّهُ يُعَاقَبُ فِي أَقَلِّ الْجُرْمِ بِأَخَفِّ الْعُقُوبَاتِ ، وَفِي كَثْرَةِ الْجُرْمِ بِأَغْلَظِهَا ، فَكَانَ أَوْلَى .
[ ص: 354 ] وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَمَّا بُدِئَ فِيهَا بِالْأَغْلَظِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى تَرْتِيبٍ ، مِثْلَ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ . وَلَوْ كَانَتْ عَلَى التَّخْيِيرِ لَبُدِئَ فِيهَا بِالْأَخَفِّ مِنْ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ .