فأما قوله :
وأغر في الزمن البهيم محجل قد رحت منه على أغر محجل كالهيكل المبني إلا أنه
في الحسن جاء كصورة في هيكل
فالبيت الأول لم يتفق له فيه خروج حسن ، بل هو مقطوع عما سلف من الكلام .
وعامة خروجه نحو هذا ، وهو غير بارع في هذا الباب ، وهذا مذموم معيب منه ؛ لأن من كان صناعته الشعر ، وهو يأكل به ، وتغافل عما يدفع إليه في كل قصيدة ، واستهان بإحكامه وتجويده ، مع تتبعه لأن يكون عامة ما به يصدر أشعاره من النسيب عشرة أبيات ، وتتبعه للصنعة الكثيرة ، وتركيب العبارات ، وتنقيح الألفاظ وتزويرها - كان ذلك أدخل في عيبه ، وأدل على تقصيره أو قصوره ، وإنما يقع له الخروج الحسن في مواضع يسيرة .
nindex.php?page=showalam&ids=11952وأبو تمام أشد تتبعا لتحسين الخروج منه .
وأما قوله : " وأغر في الزمن البهيم محجل " ، فإن ذكر التحجيل في الممدوح قريب ، وليس بالجيد ، وقد يمكن أن يقال : إنه إذا قرن بالأغر حسن ، وجرى مجراه ، وانخرط في سلكه ، وأهوى إلى مضماره ، ولم ينكر لمكانه من جواره . فهذا عذر ، والعدول عنه أحسن .
[ ص: 228 ] وإنما أراد أن يرد العجز على الصدر ، ويأتي بوجه في التجنيس .
وفيه شيء ؛ لأن ظاهر كلامه يوهم أنه قد صار ممتطيا الأغر الأول ورائحا عليه .
ولو سلم من ذلك لم يكن فيه ما يفوت حدود الشعراء ، وأقاويل الناس .
فأما ذكر الهيكل في البيت الثاني ، ورده عجز البيت عليه ، وظنه أنه قد ظفر بهذه اللفظة وعمل شيئا ، حتى كررها ، فهي كلمة فيها ثقل ، ونحن نجدهم إذا أرادوا أن يصفوا بنحو هذا قالوا : " ما هو إلا صورة " ، و " ما هو إلا تمثال " ، و " ما هو إلا دمية " ، و " ما هو إلا ظبية " ، ونحو ذلك من الكلمات الخفيفة على القلب واللسان .
وقد استدرك هو أيضا على نفسه ، فذكر أنه كصورة في هيكل ، ولو اقتصر على ذكر الصورة وحذف الهيكل ، كان أولى وأجمل .
ولو أن هذه الكلمة كررها أصحاب العزائم على الشياطين ، لراعوهم بها ، وأفزعوهم بذكرها ! وذلك من كلامهم ، وشبيه بصناعتهم .
* * *
وأما قوله :
وافي الضلوع يشد عقد حزامه يوم اللقاء على معم مخول
أخواله للرستمين بفارس وجدوده للتبعين بموكل
نبل المحزم مما يمدح به الخيل ، فهو لم يأت فيه ببديع .
وقوله : " يشد عقد حزامه " ، داخل في التكلف والتعسف ، لا يقبل من مثله وإن قبلناه من غيره ؛ لأنه يتتبع الألفاظ وينقدها نقدا شديدا ، فهلا قال : " يشد حزامه " ، أو يأتي بحشو آخر سوى العقد ؟ فقد عقد هذا البيت بذكر العقد .
ثم قوله : " يوم اللقاء " ، حشو آخر لا يحتاج إليه .
[ ص: 229 ] وأما البيت الثاني فمعناه أصلح من ألفاظه ؛ لأنها غير مجانسة لطباعه ، وفيها غلظ ونفار .
* * *
وأما قوله :
يهوي كما تهوي العقاب وقد رأت صيدا وينتصب انتصاب الأجدل
متوجس برقيقتين كأنما تريان من ورق عليه موصل
ما إن يعاف قذى ، ولو أوردته يوما خلائق حمدويه الأحول
البيت الأول صالح ، وقد قاله الناس ولم يسبق إليه ، ولم يقل ما لم يقولوه ، بل هو منقول . وفي سرعة عدو الفرس تشبيهات ليس هذا بأبدعها ، وقد يقولون : " يفوت الطرف " ، و " يسبق الريح " ، و " يجاري الوهم " و " يكد النظر " ولولا أن الإتيان على محاسن ما قالوه في ذلك يخرج الكلام عن غرض الكتاب ، لنقلت لك جملة مما ذهبوا إليه في هذا المعنى . فتتبع تعلم أنه لم يأت فيها بما يجل عن الوصف ، أو يفوت منتهى الحد .
على أن الهوي يذكر عند الانقضاض خاصة ، وليس للفرس هذه الصفة في الحقيقة ، إلا أن يشبه حده في العدو بحالة انقضاض البازي والعقاب ، وليست تلك الحالة بأسرع أحوال طيرانها .
وأما البيت الثاني فقوله : إن الأذنين كأنهما من ورق موصل ، وإنما أراد
[ ص: 230 ] بذلك حدتهما ، وسرعة حركتهما ، وإحساسهما بالصوت ، كما يحس الورق بحفيف الريح . وظاهر التشبيه غير واقع ، وإذا ضمن ما ذكرنا من المعنى كان المعنى حسنا ، ولكن لا يدل عليه اللفظ ، وإنما يجري مجرى المضمن .
وليس هذا البيت برائق اللفظ ، ولا مشاكل فيه لطبعه ، غير قوله : " متوجس برقيقتين " ، فإن هذا القدر هو حسن .
وأما البيت الثالث ، فقد ذكرنا فيما مضى من الكتاب أنه من باب الاستطراد ونقلنا نظائر ذلك من قول
nindex.php?page=showalam&ids=11952أبي تمام وغيره ، وقطعة
nindex.php?page=showalam&ids=11952أبي تمام في نهاية الحسن في هذا المعنى .
والذي وقع
nindex.php?page=showalam&ids=13823للبحتري في هذا البيت عندي ليس بجيد في لفظ ولا معنى ، وهو بيت وحش جدا ، قد صار قذى في عين هذه القصيدة ، بل وخزا فيها ووبالا عليها ، قد كدر صفاءها ، وأذهب بهاءها وماءها ، وطمس بظلمته سناءها .
وما وجه مدح الفرس بأنه لا يعاف قذى من المياه إذا وردها ؟ ! كأنه أراد أن يسلك مسلك
nindex.php?page=showalam&ids=15529بشار في قوله :
ولا يشرب الماء إلا بدم
وإذا كان لهذا الباب مجانبا ، وعن هذا السمت بعيدا ، فهلا وصفها بعزة الشرب ؟ كما وصفها
nindex.php?page=showalam&ids=15155المتنبي في قوله :
وصول إلى المستصعبات بخيله فلو كان قرن الشمس ماء لأوردا
وهلا سلك فيه مسلك القائل :
وإني للماء الذي شابه القذى إذا كثرت وراده لعيوف ؟ !
[ ص: 231 ] ثم قوله : " ولو أوردته يوما " ، حشو بارد ! !
ثم قوله :
" حمدويه الأحول " ، وحش جدا ، فما أمقت هذا البيت وأبغضه ، وما أثقله وأسخفه ! وإنما غطى على عينه عيبه ، وزين له إيراده طمعه في الاستطراد ، وهلا طمع فيه على وجه لا يغض من بهجة كلامه ، ولا معنى ألفاظه ؟ ! فقد كان يمكن ذلك ولا يتعذر .
* * *
فَأَمَّا قَوْلُهُ :
وَأَغَرَّ فِي الزَّمَنِ الْبَهِيمِ مُحَجَّلٍ قَدْ رُحْتُ مِنْهُ عَلَى أَغَرَّ مُحَجَّلِ كَالْهَيْكَلِ الْمَبْنِيِّ إِلَّا أَنَّهُ
فِي الْحُسْنِ جَاءَ كَصُورَةٍ فِي هَيْكَلِ
فَالْبَيْتُ الْأَوَّلُ لَمْ يَتَّفِقْ لَهُ فِيهِ خُرُوجٌ حَسَنٌ ، بَلْ هُوَ مَقْطُوعٌ عَمَّا سَلَفَ مِنَ الْكَلَامِ .
وَعَامَّةُ خُرُوجِهِ نَحْوُ هَذَا ، وَهُوَ غَيْرُ بَارِعٍ فِي هَذَا الْبَابِ ، وَهَذَا مَذْمُومٌ مَعِيبٌ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ صِنَاعَتُهُ الشِّعْرَ ، وَهُوَ يَأْكُلُ بِهِ ، وَتَغَافَلَ عَمَّا يُدْفَعُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ قَصِيدَةٍ ، وَاسْتَهَانَ بِإِحْكَامِهِ وَتَجْوِيدِهِ ، مَعَ تَتَبُّعِهِ لِأَنْ يَكُونَ عَامَّةُ مَا بِهِ يُصَدِّرُ أَشْعَارَهُ مِنَ النَّسِيبِ عَشَرَةُ أَبْيَاتٍ ، وَتَتَبُّعِهِ لِلصَّنْعَةِ الْكَثِيرَةِ ، وَتَرْكِيبِ الْعِبَارَاتِ ، وَتَنْقِيحِ الْأَلْفَاظِ وَتَزْوِيرِهَا - كَانَ ذَلِكَ أَدْخَلَ فِي عَيْبِهِ ، وَأَدَلَّ عَلَى تَقْصِيرِهِ أَوْ قُصُورِهِ ، وَإِنَّمَا يَقَعُ لَهُ الْخُرُوجُ الْحَسَنُ فِي مَوَاضِعَ يَسِيرَةٍ .
nindex.php?page=showalam&ids=11952وَأَبُو تَمَّامٍ أَشَدُّ تَتَبُّعًا لِتَحْسِينِ الْخُرُوجِ مِنْهُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : " وَأَغَرَّ فِي الزَّمَنِ الْبَهِيمِ مُحَجَّلٍ " ، فَإِنَّ ذِكْرَ التَّحْجِيلِ فِي الْمَمْدُوحِ قَرِيبٌ ، وَلَيْسَ بِالْجَيِّدِ ، وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إِنَّهُ إِذَا قُرِنَ بِالْأَغَرِّ حَسُنَ ، وَجَرَى مَجْرَاهُ ، وَانْخَرَطَ فِي سِلْكِهِ ، وَأَهْوَى إِلَى مِضْمَارِهِ ، وَلَمْ يُنْكَرْ لِمَكَانِهِ مِنْ جِوَارِهِ . فَهَذَا عُذْرٌ ، وَالْعُدُولُ عَنْهُ أَحْسَنُ .
[ ص: 228 ] وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَرُدَّ الْعَجُزَ عَلَى الصَّدْرِ ، وَيَأْتِيَ بِوَجْهٍ فِي التَّجْنِيسِ .
وَفِيهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِ يُوهِمُ أَنَّهُ قَدْ صَارَ مُمْتَطِيًا الْأَغَرَّ الْأَوَّلَ وَرَائِحًا عَلَيْهِ .
وَلَوْ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يَفُوتُ حُدُودَ الشُّعَرَاءِ ، وَأَقَاوِيلَ النَّاسِ .
فَأَمَّا ذِكْرُ الْهَيْكَلِ فِي الْبَيْتِ الثَّانِي ، وَرَدُّهُ عَجُزَ الْبَيْتِ عَلَيْهِ ، وَظَنُّهُ أَنَّهُ قَدْ ظَفِرَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ وَعَمِلَ شَيْئًا ، حَتَّى كَرَّرَهَا ، فَهِيَ كَلِمَةٌ فِيهَا ثِقَلٌ ، وَنَحْنُ نَجِدُهُمْ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَصِفُوا بِنَحْوِ هَذَا قَالُوا : " مَا هُوَ إِلَّا صُورَةٌ " ، وَ " مَا هُوَ إِلَّا تِمْثَالٌ " ، وَ " مَا هُوَ إِلَّا دُمْيَةٌ " ، وَ " مَا هُوَ إِلَّا ظَبْيَةٌ " ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْخَفِيفَةِ عَلَى الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ .
وَقَدِ اسْتَدْرَكَ هُوَ أَيْضًا عَلَى نَفْسِهِ ، فَذَكَرَ أَنَّهُ كَصُورَةٍ فِي هَيْكَلٍ ، وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الصُّورَةِ وَحَذْفِ الْهَيْكَلِ ، كَانَ أَوْلَى وَأَجْمَلَ .
وَلَوْ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ كَرَّرَهَا أَصْحَابُ الْعَزَائِمِ عَلَى الشَّيَاطِينِ ، لَرَاعُوهُمْ بِهَا ، وَأَفْزَعُوهُمْ بِذِكْرِهَا ! وَذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِمْ ، وَشَبِيهٌ بِصِنَاعَتِهِمْ .
* * *
وَأَمَّا قَوْلُهُ :
وَافِي الضُّلُوعِ يَشُدُّ عَقْدَ حِزَامِهِ يَوْمَ اللِّقَاءِ عَلَى مُعِمٍّ مُخْوِلِ
أَخْوَالُهُ لِلرُّسْتَمَيْنِ بِفَارِسٍ وَجُدُودُهُ لِلتُّبَّعَيْنِ بِمَوْكِلِ
نُبْلُ الْمَحْزَمِ مِمَّا يُمْدَحُ بِهِ الْخَيْلُ ، فَهُوَ لَمْ يَأْتِ فِيهِ بِبَدِيعٍ .
وَقَوْلُهُ : " يَشُدُّ عَقْدَ حِزَامِهِ " ، دَاخِلٌ فِي التَّكَلُّفِ وَالتَّعَسُّفِ ، لَا يُقْبَلُ مِنْ مِثْلِهِ وَإِنْ قَبِلْنَاهُ مِنْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَتَبَّعُ الْأَلْفَاظَ وَيَنْقُدُهَا نَقْدًا شَدِيدًا ، فَهَلَّا قَالَ : " يَشُدُّ حِزَامَهُ " ، أَوْ يَأْتِي بِحَشْوٍ آخَرَ سِوَى الْعَقْدِ ؟ فَقَدْ عَقَّدَ هَذَا الْبَيْتَ بِذِكْرِ الْعَقْدِ .
ثُمَّ قَوْلُهُ : " يَوْمَ اللِّقَاءِ " ، حَشْوٌ آخَرُ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ .
[ ص: 229 ] وَأَمَّا الْبَيْتُ الثَّانِي فَمَعْنَاهُ أَصْلَحُ مِنْ أَلْفَاظِهِ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُجَانِسَةٍ لِطِبَاعِهِ ، وَفِيهَا غِلَظٌ وَنِفَارٌ .
* * *
وَأَمَّا قَوْلُهُ :
يَهْوِي كَمَا تَهْوِي الْعُقَابُ وَقَدْ رَأَتْ صَيْدًا وَيَنْتَصِبُ انْتِصَابَ الْأَجْدَلِ
مُتَوَجِّسٌ بِرَقِيقَتَيْنِ كَأَنَّمَا تُرَيَانِ مِنْ وَرَقٍ عَلَيْهِ مُوَصَّلِ
مَا إِنْ يَعَافُ قَذًى ، وَلَوْ أَوْرَدْتَهُ يَوْمًا خَلَائِقَ حَمْدَوَيْهِ الْأَحْوَلِ
الْبَيْتُ الْأَوَّلُ صَالِحٌ ، وَقَدْ قَالَهُ النَّاسُ وَلَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهِ ، وَلَمْ يَقُلْ مَا لَمْ يَقُولُوهُ ، بَلْ هُوَ مَنْقُولٌ . وَفِي سُرْعَةِ عَدْوِ الْفَرَسِ تَشْبِيهَاتٌ لَيْسَ هَذَا بِأَبْدَعِهَا ، وَقَدْ يَقُولُونَ : " يَفُوتُ الطَّرْفَ " ، وَ " يَسْبِقُ الرِّيحَ " ، وَ " يُجَارِي الْوَهْمَ " وَ " يَكُدُّ النَّظَرَ " وَلَوْلَا أَنَّ الْإِتْيَانَ عَلَى مَحَاسِنِ مَا قَالُوهُ فِي ذَلِكَ يُخْرِجُ الْكَلَامَ عَنْ غَرَضِ الْكِتَابِ ، لَنَقَلْتُ لَكَ جُمْلَةً مِمَّا ذَهَبُوا إِلَيْهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى . فَتَتَبَّعْ تَعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِيهَا بِمَا يَجِلُّ عَنِ الْوَصْفِ ، أَوْ يَفُوتُ مُنْتَهَى الْحَدِّ .
عَلَى أَنَّ الْهُوِيَّ يُذْكَرُ عِنْدَ الِانْقِضَاضِ خَاصَّةً ، وَلَيْسَ لِلْفَرَسِ هَذِهِ الصِّفَةُ فِي الْحَقِيقَةِ ، إِلَّا أَنْ يُشَبِّهَ حَدَّهُ فِي الْعَدْوِ بِحَالَةِ انْقِضَاضِ الْبَازِي وَالْعُقَابِ ، وَلَيْسَتْ تِلْكَ الْحَالَةُ بِأَسْرَعِ أَحْوَالِ طَيَرَانِهَا .
وَأَمَّا الْبَيْتُ الثَّانِي فَقَوْلُهُ : إِنَّ الْأُذُنَيْنِ كَأَنَّهُمَا مِنْ وَرَقٍ مُوَصَّلٍ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ
[ ص: 230 ] بِذَلِكَ حِدَّتَهُمَا ، وَسُرْعَةَ حَرَكَتِهِمَا ، وَإِحْسَاسَهُمَا بِالصَّوْتِ ، كَمَا يُحِسُّ الْوَرَقُ بِحَفِيفِ الرِّيحِ . وَظَاهِرُ التَّشْبِيهِ غَيْرُ وَاقِعٍ ، وَإِذَا ضَمَّنَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَى كَانَ الْمَعْنَى حَسَنًا ، وَلَكِنْ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ ، وَإِنَّمَا يَجْرِي مَجْرَى الْمُضَمَّنِ .
وَلَيْسَ هَذَا الْبَيْتُ بِرَائِقِ اللَّفْظِ ، وَلَا مُشَاكِلٍ فِيهِ لِطَبْعِهِ ، غَيْرُ قَوْلِهِ : " مُتَوَجِّسٌ بِرَقِيقَتَيْنِ " ، فَإِنَّ هَذَا الْقَدْرَ هُوَ حَسَنٌ .
وَأَمَّا الْبَيْتُ الثَّالِثُ ، فَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى مِنَ الْكِتَابِ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الِاسْتِطْرَادِ وَنَقَلْنَا نَظَائِرَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ
nindex.php?page=showalam&ids=11952أَبِي تَمَّامٍ وَغَيْرِهِ ، وَقِطْعَةُ
nindex.php?page=showalam&ids=11952أَبِي تَمَّامٍ فِي نِهَايَةِ الْحُسْنِ فِي هَذَا الْمَعْنَى .
وَالَّذِي وَقَعَ
nindex.php?page=showalam&ids=13823لِلْبُحْتُرِيِّ فِي هَذَا الْبَيْتِ عِنْدِي لَيْسَ بِجَيِّدٍ فِي لَفْظٍ وَلَا مَعْنًى ، وَهُوَ بَيْتٌ وَحِشٌ جِدًّا ، قَدْ صَارَ قَذًى فِي عَيْنِ هَذِهِ الْقَصِيدَةِ ، بَلْ وَخْزًا فِيهَا وَوَبَالًا عَلَيْهَا ، قَدْ كَدَّرَ صَفَاءَهَا ، وَأَذْهَبَ بَهَاءَهَا وَمَاءَهَا ، وَطَمَسَ بِظُلْمَتِهِ سَنَاءَهَا .
وَمَا وَجْهُ مَدْحِ الْفَرَسِ بِأَنَّهُ لَا يَعَافُ قَذًى مِنَ الْمِيَاهِ إِذَا وَرَدَهَا ؟ ! كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَسْلُكَ مَسْلَكَ
nindex.php?page=showalam&ids=15529بَشَّارٍ فِي قَوْلِهِ :
وَلَا يَشْرَبُ الْمَاءَ إِلَّا بِدَمْ
وَإِذَا كَانَ لِهَذَا الْبَابِ مُجَانِبًا ، وَعَنْ هَذَا السَّمْتِ بَعِيدًا ، فَهَلَّا وَصَفَهَا بِعِزَّةِ الشُّرْبِ ؟ كَمَا وَصَفَهَا
nindex.php?page=showalam&ids=15155الْمُتَنَبِّي فِي قَوْلِهِ :
وَصُولٌ إِلَى الْمُسْتَصْعَبَاتِ بِخَيْلِهِ فَلَوْ كَانَ قَرْنُ الشَّمْسِ مَاءً لَأَوَرْدَا
وَهَلَّا سَلَكَ فِيهِ مَسْلَكَ الْقَائِلِ :
وَإِنِّي لِلْمَاءِ الَّذِي شَابَهُ الْقَذَى إِذَا كَثُرَتْ وُرَّادُهُ لَعَيُوفُ ؟ !
[ ص: 231 ] ثُمَّ قَوْلُهُ : " وَلَوْ أَوْرَدْتَهُ يَوْمًا " ، حَشْوٌ بَارِدٌ ! !
ثُمَّ قَوْلُهُ :
" حَمْدَوَيْهِ الْأَحْوَلِ " ، وَحِشٌ جِدًّا ، فَمَا أَمْقَتَ هَذَا الْبَيْتَ وَأَبْغَضَهُ ، وَمَا أَثْقَلَهُ وَأَسْخَفَهُ ! وَإِنَّمَا غَطَّى عَلَى عَيْنِهِ عَيْبُهُ ، وَزَيَّنَ لَهُ إِيرَادَهُ طَمَعُهُ فِي الِاسْتِطْرَادِ ، وَهَلَّا طَمِعَ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَغُضُّ مِنْ بَهْجَةِ كَلَامِهِ ، وَلَا مَعْنَى أَلْفَاظِهِ ؟ ! فَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ ذَلِكَ وَلَا يَتَعَذَّرُ .
* * *