[ ص: 53 ] وكذلك قوله
nindex.php?page=hadith&LINKID=944208 "عملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه"، فإنه يحب
nindex.php?page=treesubj&link=28847الثواب الذي هو جزاء العمل، فإنما يعمل لنفسه، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت. ثم إذا طلب العبادة فإنما يطلبها من حيث هي نافعة له محصلة لسعادته، فلا يطلب العبد قط إلا ما فيه حظ له، وإن كان الرب يحب ذلك فهو يطلبه من حيث هو ملائم له، والرب تعالى يحب أن يعبد لا يشرك به شيئا، ومن فعل ذلك من العباد أحبه وأثابه، فيحصل للعبد ما يحبه من النعيم تبعا لمحبوب الرب، وهذا كالبائع والمشتري، البائع يريد أولا الثمن، ومن لوازم ذلك إرادة تسليم المبيع، والمشتري يريد السلعة، ومن لوازم ذلك إرادة إعطاء الثمن.
فالرب تعالى يحب أن يعبد، ومن لوازم ذلك أن يحب ما لا تحصل العبادة إلا به، والعبد يحب ما يحتاج إليه وينتفع به، ومن لوازم ذلك محبته لعبادة الله تعالى. فمن عبد الله وأحسن إلى الناس لله فهذا قائم بحق الله وحق عباده لأجله، ومن طلب منهم العوض ثناء أو دعاء أو غير ذلك لم يحسن إليهم لله. ومن خاف الله فيهم ولم يخفهم فقد قام بحق الله في إخلاص الدين له، وقام بحقهم، فإن خوف الله يحمله على أن يعطيهم ما لهم ويكف عن ظلمهم ومن [لم] يخف الله بل خاف الناس، ولم يرج الله بل رجا الناس فهذا ظالم في حق الله، حيث خاف غيره ورجا غيره، وظالم للناس لأنه إذا خافهم دون الله فإنه يحتاج أن يدفع شرهم عنه، وهو إذا لم يخف الله بنفسه وهواه يختار العدوان عليهم والبغي، فإن طبع النفس ظلم من لا يظلمها، فكيف من يظلمها؟ فتجد هذا الضرب كثير الخوف من الخلق كثير الظلم لمن يخافه بحسبه. وهذا مما يوقع الفتن بين الناس.
[ ص: 54 ]
وكذلك إذا رجاهم فهم لا يعطونه ما يرجوه منهم، فلا بد أن يبغضهم فيظلمهم إذا لم يكن خائفا من الله. وهذا موجود كثيرا، تجد الناس يخاف بعضهم بعضا ويرجو بعضهم بعضا، وكل من هؤلاء وهؤلاء يتظلم من الآخر ويطلب ظلمه، فهم ظالمون بعضهم بعضا، ظالمون في حق الله حيث خافوا غيره ورجوا غيره، ظالمون لأنفسهم، فإن هذا من الذنوب التي تعذب النفس عليها، وهو أيضا يجر إلى فعل المعاصي المختصة كالشرب والزنا، فإن
nindex.php?page=treesubj&link=19984الإنسان إذا لم يخف من الله اتبع هواه، لاسيما إذا كان طالبا ما لم يحصل له، فإن نفسه تبقى طالبة لما تستريح به وتدفع به الغم والحزن، وليس عندها من ذكر الله وعبادته ما تستريح به، فتستريح بالمحرمات من فعل الفواحش وشرب المحرمات وغير ذلك.
ولا يستغني القلب إلا بعبادة الله تعالى، فإن الإنسان خلق محتاجا إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، ونفسه مريدة دائما، ولا بد لها من مراد يكون غاية مطلوبها، فتسكن إليه وتطمئن به، وليس ذلك إلا الله وحده لا شريك له. فإذا لم تكن مخلصة له الدين عبدت غيره، فأشركت به عبادة واستعانة، فتعبد غيره وتستعين غيره. وسعادتها في أن لا تعبد إلا الله، ولا تستعين إلا الله، فبالعبادة له تستغني عن معبود آخر، وبإعانته تستغني عن معين غيره، وإلا يبقى مذنبا محتاجا.
وهذا حال الإنسان، فإنه محتاج فقير، وهو مع ذلك مذنب خطاء، فلا بد له من ربه الذي يسد مفاقره، ولا بد له من الاستغفار من ذنوبه. قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=19فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك .
[ ص: 55 ]
فبالتوحيد يقوى ويستغني، ومن سره أن يكون أقوى الناس، فليتوكل على الله، وبالاستغفار له يغفر له. فلا يزول فقره وفاقته إلا بالتوحيد، لا بد له منه، وإلا فإذا لم يحصل له لم يزل فقيرا محتاجا لا يحصل مطلوبه معذبا، والله تعالى لا يغفر أن يشرك به. وإذا حصل مع التوحيد الاستغفار حصل غناه وسعادته، وزال عنه ما يعذب به، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهو مفتقر دائما إلى التوكل عليه والاستعانة به، كما هو مفتقر إلى عبادته، فلا بد أن يشهد دائما فقره إليه وحاجته في أن يكون معبودا له وأن يكون معينا له، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ منه إلا إليه. قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=175إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه أي يخوفكم أولياءه
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=175فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين . هذا هو الصواب الذي علمه جمهور المفسرين ،
nindex.php?page=showalam&ids=11كابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير وعكرمة nindex.php?page=showalam&ids=12354والنخعي، وأهل اللغة
كالفراء nindex.php?page=showalam&ids=13436وابن قتيبة nindex.php?page=showalam&ids=14416والزجاج nindex.php?page=showalam&ids=12590وابن الأنباري. وعبارة الفراء: يخوفكم بأوليائه، كما قال:
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=2لينذر بأسا شديدا من لدنه أي ببأس، وقوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=15لينذر يوم التلاق أي بيوم التلاق. وعبارة
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج: يخوفكم من أوليائه. قال
nindex.php?page=showalam&ids=13742أبو بكر الأنباري : والذي نختاره في الآية أن المعنى يخوفكم أولياءه، يقول العرب: أعطيت الأموال، أي أعطيت القوم الأموال، فيحذفون المفعول الأول، ويقتصرون على ذكر الثاني.
[ ص: 56 ]
قال: فهذا أشبه من ادعاء "باء"، وما عليها دليل ولا تدعو إليها ضرورة.
قلت: وهذا لأن الشيطان يخوف الناس أولياءه تخويفا مطلقا، ليس له في تخويف ناس [ضرورة] ، فحذف الأول لأنه ليس مقصودا.
وهذا يسمى حذف اقتصار، كما يقال: فلان يعطي الأموال والدراهم.
وقد قال بعض المفسرين : إن المراد يخوف أولياءه المنافقين، ونقل هذا عن
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن nindex.php?page=showalam&ids=14468والسدي. وهذا له وجه سنذكره، لكن الأول أظهر، لأن
nindex.php?page=treesubj&link=28974_28861الآية إنما نزلت بسبب تخويفهم من الكفار. قال الله تعالى: nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=173الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل إلى أن قال: nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=175إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه ، ثم قال: nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=175فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين . فإنما نزلت فيمن خوف المؤمنين من الناس، وقد قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=175يخوف أولياءه ثم قال:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=175فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين . والضمير عائد إلى أوليائه الذين قيل فيهم
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=173فاخشوهم .
وأما ذلك القول فالذي قاله فسرها من جهة المعنى أن الشيطان إنما يخوف أولياءه، وأما المؤمنون فهم متوكلون على الله لا يخوفهم. أو أنهم أرادوا المفعول المتروك، أي يخوف المنافقين أولياءه، وإلا فهو يخوف الكفار كما يخوف المنافقين. ولو أريد أنه يخوف أولياءه أي يجعلهم خائفين لم يكن للضمير ما يعود إليه، وهو قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=175فلا تخافوهم .
[ ص: 57 ]
وأيضا فهذا فيه نظر، فإن الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم، كما قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=48وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس الآية ، وقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=120يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا . ولكن الكفار يوقع الله في قلوبهم الرعب من المؤمنين، والشيطان لا يختار ذلك، قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=13لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ، وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=12إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم الآية ، وقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=151سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا . وفي حديث
قريظة أن جبريل قال: إني ذاهب إليهم فأزلزل بهم الحصن.
[ ص: 53 ] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ
nindex.php?page=hadith&LINKID=944208 "عَمَلُكَ أَجْزِيكَ بِهِ أَحْوَجُ مَا تَكُونُ إِلَيْهِ"، فَإِنَّهُ يُحِبُّ
nindex.php?page=treesubj&link=28847الثَّوَابَ الَّذِي هُوَ جَزَاءُ الْعَمَلِ، فَإِنَّمَا يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ، لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ. ثُمَّ إِذَا طَلَبَ الْعِبَادَةَ فَإِنَّمَا يَطْلُبُهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ نَافِعَةٌ لَهُ مُحَصِّلَةٌ لِسَعَادَتِهِ، فَلَا يَطْلُبُ الْعَبْدُ قَطُّ إِلَّا مَا فِيهِ حَظٌّ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الرَّبُّ يُحِبُّ ذَلِكَ فَهُوَ يَطْلُبُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُلَائِمٌ لَهُ، وَالرَّبُّ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يُعْبَدَ لَا يُشْرَكَ بِهِ شَيْئًا، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادِ أَحَبَّهُ وَأَثَابَهُ، فَيَحْصُلُ لِلْعَبْدِ مَا يُحِبُّهُ مِنَ النَّعِيمِ تَبَعًا لِمَحْبُوبِ الرَّبِّ، وَهَذَا كَالْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، الْبَائِعُ يُرِيدُ أَوَّلًا الثَّمَنَ، وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ إِرَادَةُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَالْمُشْتَرِي يُرِيدُ السِّلْعَةَ، وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ إِرَادَةُ إِعْطَاءِ الثَّمَنِ.
فَالرَّبُّ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يُعْبَدَ، وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ أَنْ يُحِبَّ مَا لَا تَحْصُلُ الْعِبَادَةُ إِلَّا بِهِ، وَالْعَبْدُ يُحِبُّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ، وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ مَحَبَّتُهُ لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى. فَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَأَحْسَنَ إِلَى النَّاسِ لِلَّهِ فَهَذَا قَائِمٌ بِحَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ عِبَادِهِ لِأَجْلِهِ، وَمَنْ طَلَبَ مِنْهُمُ الْعِوَضَ ثَنَاءً أَوْ دُعَاءً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لَمْ يُحْسِنْ إِلَيْهِمْ لِلَّهِ. وَمَنْ خَافَ اللَّهَ فِيهِمْ وَلَمْ يَخَفْهُمْ فَقَدْ قَامَ بِحَقِّ اللَّهِ فِي إِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ، وَقَامَ بِحَقِّهِمْ، فَإِنَّ خَوْفَ اللَّهِ يَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُمْ مَا لَهُمْ وَيَكُفَّ عَنْ ظُلْمِهِمْ وَمَنْ [لَمْ] يَخَفِ اللَّهَ بَلْ خَافَ النَّاسَ، وَلَمْ يَرْجُ اللَّهَ بَلْ رَجَا النَّاسَ فَهَذَا ظَالِمٌ فِي حَقِّ اللَّهِ، حَيْثُ خَافَ غَيْرَهُ وَرَجَا غَيْرَهُ، وَظَالِمٌ لِلنَّاسِ لِأَنَّهُ إِذَا خَافَهُمْ دُونَ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَدْفَعَ شَرَّهُمْ عَنْهُ، وَهُوَ إِذَا لَمْ يَخَفِ اللَّهَ بِنَفْسِهِ وَهَوَاهُ يَخْتَارُ الْعُدْوَانَ عَلَيْهِمْ وَالْبَغْيَ، فَإِنَّ طَبْعَ النَّفْسِ ظُلْمُ مَنْ لَا يَظْلِمُهَا، فَكَيْفَ مَنْ يَظْلِمُهَا؟ فَتَجِدُ هَذَا الضَّرْبَ كَثِيرَ الْخَوْفِ مِنَ الْخَلْقِ كَثِيرَ الظُّلْمِ لِمَنْ يَخَافُهُ بِحَسْبِهِ. وَهَذَا مِمَّا يُوقِعُ الْفِتَنَ بَيْنَ النَّاسِ.
[ ص: 54 ]
وَكَذَلِكَ إِذَا رَجَاهُمْ فَهُمْ لَا يُعْطُونَهُ مَا يَرْجُوهُ مِنْهُمْ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُبْغِضَهُمْ فَيَظْلِمَهُمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ خَائِفًا مِنَ اللَّهِ. وَهَذَا مَوْجُودٌ كَثِيرًا، تَجِدُ النَّاسَ يَخَافُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَرْجُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ يَتَظَلَّمُ مِنَ الْآخَرِ وَيَطْلُبُ ظُلْمَهُ، فَهُمْ ظَالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ظَالِمُونَ فِي حَقِّ اللَّهِ حَيْثُ خَافُوا غَيْرَهُ وَرَجَوْا غَيْرَهُ، ظَالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّ هَذَا مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي تُعَذَّبُ النَّفْسُ عَلَيْهَا، وَهُوَ أَيْضًا يَجُرُّ إِلَى فِعْلِ الْمَعَاصِي الْمُخْتَصَّةِ كَالشُّرْبِ وَالزِّنَا، فَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19984الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يَخَفْ مِنَ اللَّهِ اتَّبَعَ هَوَاهُ، لَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ طَالِبًا مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ، فَإِنَّ نَفْسَهُ تَبْقَى طَالِبَةً لِمَا تَسْتَرِيحُ بِهِ وَتَدْفَعُ بِهِ الْغَمَّ وَالْحُزْنَ، وَلَيْسَ عِنْدَهَا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ مَا تَسْتَرِيحُ بِهِ، فَتَسْتَرِيحُ بِالْمُحَرَّمَاتِ مِنْ فِعْلِ الْفَوَاحِشِ وَشُرْبِ الْمُحَرَّمَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَلَا يَسْتَغْنِي الْقَلْبُ إِلَّا بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ مُحْتَاجًا إِلَى جَلْبِ مَا يَنْفَعُهُ وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ، وَنَفْسُهُ مُرِيدَةٌ دَائِمًا، وَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُرَادٍ يَكُونُ غَايَةَ مَطْلُوبِهَا، فَتَسْكُنُ إِلَيْهِ وَتَطْمَئِنُّ بِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. فَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُخْلِصَةً لَهُ الدِّينَ عَبَدَتْ غَيْرَهُ، فَأَشْرَكَتْ بِهِ عِبَادَةً وَاسْتِعَانَةً، فَتَعْبُدُ غَيْرَهُ وَتَسْتَعِينُ غَيْرَهُ. وَسَعَادَتُهَا فِي أَنْ لَا تَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ، وَلَا تَسْتَعِينُ إِلَّا اللَّهَ، فَبِالْعِبَادَةِ لَهُ تَسْتَغْنِي عَنْ مَعْبُودٍ آخَرَ، وَبِإِعَانَتِهِ تَسْتَغْنِي عَنْ مُعِينٍ غَيْرِهِ، وَإِلَّا يَبْقَى مُذْنِبًا مُحْتَاجًا.
وَهَذَا حَالُ الْإِنْسَانِ، فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ فَقِيرٌ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُذْنِبٌ خَطَّاءٌ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ رَبِّهِ الَّذِي يَسُدُّ مَفَاقِرَهُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ مِنْ ذُنُوبِهِ. قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=19فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ .
[ ص: 55 ]
فَبِالتَّوْحِيدِ يَقْوَى وَيَسْتَغْنِي، وَمَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى النَّاسِ، فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، وَبِالِاسْتِغْفَارِ لَهُ يُغْفَرُ لَهُ. فَلَا يَزُولُ فَقْرُهُ وَفَاقَتُهُ إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ، لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَإِلَّا فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ لَمْ يَزَلْ فَقِيرًا مُحْتَاجًا لَا يَحْصُلُ مَطْلُوبُهُ مُعَذَّبًا، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ. وَإِذَا حَصَلَ مَعَ التَّوْحِيدِ الِاسْتِغْفَارُ حَصَلَ غِنَاهُ وَسَعَادَتُهُ، وَزَالَ عَنْهُ مَا يُعَذَّبُ بِهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
وَهُوَ مُفْتَقِرٌ دَائِمًا إِلَى التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، كَمَا هُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى عِبَادَتِهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَشْهَدَ دَائِمًا فَقْرَهُ إِلَيْهِ وَحَاجَتَهُ فِي أَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا لَهُ وَأَنْ يَكُونَ مُعِينًا لَهُ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا مَلْجَأَ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ. قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=175إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ أَيْ يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=175فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلِمَهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ ،
nindex.php?page=showalam&ids=11كَابْنِ عَبَّاسٍ nindex.php?page=showalam&ids=15992وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ nindex.php?page=showalam&ids=12354وَالنَّخْعِيِّ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ
كَالْفَرَّاءِ nindex.php?page=showalam&ids=13436وَابْنِ قُتَيْبَةَ nindex.php?page=showalam&ids=14416وَالزَّجَّاجِ nindex.php?page=showalam&ids=12590وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ. وَعِبَارَةُ الْفَرَّاءِ: يُخَوِّفُكُمْ بِأَوْلِيَائِهِ، كَمَا قَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=2لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ أَيْ بِبَأْسٍ، وَقَوْلُهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=15لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ أَيْ بِيَوْمِ التَّلَاقِ. وَعِبَارَةُ
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزَّجَّاجِ: يُخَوِّفُكُمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ. قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13742أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ : وَالَّذِي نَخْتَارُهُ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْمَعْنَى يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ، يَقُولُ الْعَرَبُ: أَعْطَيْتُ الْأَمْوَالَ، أَيْ أَعْطَيْتُ الْقَوْمَ الْأَمْوَالَ، فَيَحْذِفُونَ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ، وَيَقْتَصِرُونَ عَلَى ذِكْرِ الثَّانِي.
[ ص: 56 ]
قَالَ: فَهَذَا أَشْبَهُ مِنِ ادِّعَاءِ "بَاءٍ"، وَمَا عَلَيْهَا دَلِيلٌ وَلَا تَدْعُو إِلَيْهَا ضَرُورَةٌ.
قُلْتُ: وَهَذَا لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يُخَوِّفُ النَّاسَ أَوْلِيَاءَهُ تَخْوِيفًا مُطْلَقًا، لَيْسَ لَهُ فِي تَخْوِيفِ نَاسٍ [ضَرُورَةٌ] ، فَحُذِفَ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا.
وَهَذَا يُسَمَّى حَذْفَ اقْتِصَارٍ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ يُعْطِي الْأَمْوَالَ وَالدَّرَاهِمَ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ : إِنَّ الْمُرَادَ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ الْمُنَافِقِينَ، وَنُقِلَ هَذَا عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=14102الْحَسَنِ nindex.php?page=showalam&ids=14468وَالسُّدِّيِّ. وَهَذَا لَهُ وَجْهٌ سَنَذْكُرُهُ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ، لِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28974_28861الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ تَخْوِيفِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=173الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسُ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ إِلَى أَنْ قَالَ: nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=175إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ، ثُمَّ قَالَ: nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=175فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . فَإِنَّمَا نَزَلَتْ فِيمَنْ خَوَّفَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=175يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ثُمَّ قَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=175فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى أَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=173فَاخْشَوْهُمْ .
وَأَمَّا ذَلِكَ الْقَوْلُ فَالَّذِي قَالَهُ فَسَّرَهَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ الشَّيْطَانَ إِنَّمَا يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَهُمْ مُتَوَكِّلُونَ عَلَى اللَّهِ لَا يُخَوِّفُهُمْ. أَوْ أَنَّهُمْ أَرَادُوا الْمَفْعُولَ الْمَتْرُوكَ، أَيْ يُخَوِّفُ الْمُنَافِقِينَ أَوْلِيَاءَهُ، وَإِلَّا فَهُوَ يُخَوِّفُ الْكُفَّارَ كَمَا يُخَوِّفُ الْمُنَافِقِينَ. وَلَوْ أُرِيدَ أَنَّهُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ أَيْ يَجْعَلُهُمْ خَائِفِينَ لَمْ يَكُنْ لِلضَّمِيرِ مَا يَعُودُ إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=175فَلا تَخَافُوهُمْ .
[ ص: 57 ]
وَأَيْضًا فَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَعِدُ أَوْلِيَاءَهُ وَيُمَنِّيهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=48وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ الْآيَةَ ، وَقَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=120يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا . وَلَكِنَّ الْكُفَّارَ يُوقِعُ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالشَّيْطَانُ لَا يَخْتَارُ ذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=13لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ، وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=12إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ الْآيَةَ ، وَقَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=151سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا . وَفِي حَدِيثِ
قُرَيْظَةَ أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَيْهِمْ فَأُزَلْزِلُ بِهِمُ الْحِصْنَ.