nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=27nindex.php?page=treesubj&link=29019_30856_30859لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا
استئناف بياني ناشئ عن قوله : فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ودحض ما خامر نفوس فريق من الفشل أو الشك أو التحير وتبيين ما أنعم الله به على
أهل بيعة الرضوان من ثواب الدنيا والآخرة إلى كشف شبهة عرضت للقوم في رؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذلك أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رؤيا قبل خروجه إلى الحديبية ، أو وهو في الحديبية : كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين وحلقوا وقصروا . هكذا كانت الرؤيا مجملة ليس فيها وقوع حج ولا عمرة ، والحلاق والتقصير مناسب لكليهما .
[ ص: 198 ] وقص رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤياه على أصحابه فاستبشروا بها وعبروها أنهم داخلون إلى
مكة بعمرتهم التي خرجوا لأجلها ، فلما جرى الصلح وتأهب الناس إلى القفول أثار بعض المنافقين ذكر الرؤيا فقالوا : فأين الرؤيا فوالله ما دخلنا
المسجد الحرام ولا حلقنا وقصرنا ؟ فقال لهم
أبو بكر رضي الله عنه : إن المنام لم يكن موقتا بوقت وأنه سيدخل وأنزل الله تعالى هذه الآية .
والمعنى أن
nindex.php?page=treesubj&link=31786_30597رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق وأن الله أوحى إليه بها وأنها وإن لم تقع في تلك القضية فستحقق بعد ذلك وكأن الحكمة في إراءة الله رسوله صلى الله عليه وسلم تلك الرؤيا أيامئذ وفي إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بها : أن الله أدخل بذلك على قلوبهم الثقة بقوتهم وتربية الجراءة على المشركين في ديارهم فتسلم قلوبهم من ماء الجبن فإن الأمراض النفسية إذا اعترت النفوس لا تلبث أن تترك فيها بقايا الداء زمانا كما تبقى آثار المرض في العضو المريض بعد النقاهة زمانا حتى ترجع إلى العضو قوته الأولى بعد مدة مناسبة .
وتوكيد الخبر بحرف ( قد ) لإبطال شبهة المنافقين الذين قالوا : فأين الرؤيا ؟ ومعنى صدق الله رسوله الرؤيا أنه أراه رؤيا صادقة لأن رؤيا الأنبياء وحي فآلت إلى معنى الخبر فوصفت بالصدق لذلك .
وهذا تطمين لهم بأن ذلك سيكون لا محالة وهو في حين نزول الآية لما يحصل بقرينة قوله إن شاء الله .
وتعدية " صدق " إلى منصوب ثان بعد مفعوله من النصب على نزع الخافض المسمى بالحذف والإيصال ، أي حذف الجار وإيصال الفعل إلى المجرور بالعمل فيه النصب . وأصل الكلام : صدق الله رسوله في الرؤيا كقوله تعالى : صدقوا ما عاهدوا الله عليه .
والباء في بالحق للملابسة وهو ظرف مستقر وقع صفة لمصدر محذوف ، أي صدقا ملابسا الحق ، أو وقوع حالا صفة لمصدر محذوف ، أي صدقا ملابسا وقع حالا من الرؤيا .
[ ص: 199 ] والحق : الغرض الصحيح والحكمة ، أي كانت رؤيا صادقة وكانت مجعولة محكمة وهي ما قدمناه آنفا .
وجملة
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=27لتدخلن المسجد الحرام إلى آخرها يجوز أن يكون بيانا لجملة صدق الله لأن معنى لتدخلن تحقيق دخول
المسجد الحرام في المستقبل فيعلم منه أن الرؤيا إخبار بدخول لم يعين زمنه فهي صادقة فيما يتحقق في المستقبل . وهذا تنبيه للذين لم يتفطنوا لذلك فجزموا بأن رؤيا دخول المسجد تقتضي دخولهم إليه أيامئذ وما ذلك بمفهوم من الرؤيا وكان حقهم أن يعلموا أنها وعد لم يعين إبان موعوده وقد فهم ذلك
أبو بكر إذ قال لهم : إن المنام لم يكن موقتا بوقت وأنه سيدخل . وقد جاء في سورة يوسف وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل .
وليست هذه الجملة بيانا للرؤيا لأن صيغة القسم لا تلائم ذلك .
والأحسن أن تكون جملة لتدخلن المسجد الحرام استئنافا بيانيا عن جملة "
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=27صدق الله رسوله " أي سيكون ذلك في المستقبل لا محالة فينبغي الوقف عند قوله بالحق ليظهر معنى الاستئناف .
وقوله "
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=27إن شاء الله " من شأنه أن يذيل به الخبر المستقبل إذا كان حصوله متراخيا ، ألا ترى أن الذي يقال له : افعل كذا ، فيقول : أفعل إن شاء الله ، لا يفهم من كلامه أنه يفعل في الحال أو في المستقبل القريب بل يفعله بعد زمن ولكن مع تحقيق أنه يفعله .
ولذلك تأولوا قوله تعالى في سورة يوسف
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=99وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين أن " إن شاء الله " للدخول مع تقدير الأمن لأنه قال ذلك حين قد دخلوا
مصر . أما ما في هذه الآية فهو من كلام الله فلا يناسبه هذا المحمل . وليس المقصود منه التنصل من التزام الوعد ، وهذا من استعمالات كلمة إن شاء الله . فليس هو مثل استعمالها في اليمين فإنها حينئذ للثنيا لأنها في موضع قولهم : إلا أن يشاء الله ، لأن معنى : إلا أن يشاء الله : عدم الفعل ، وأما إن شاء الله ، التي تقع موقع : إلا أن يشاء الله ، فمعناه إن شاء الله الفعل .
[ ص: 200 ] والموعود به صادق بدخولهم
مكة بالعمرة سنة سبع وهي عمرة القضية ، فإنهم دخلوا
المسجد الحرام آمنين وحلق بعضهم وقصر بعض غير خائفين إذ كان بينهم وبين المشركين عهد ، وذلك أقرب دخول بعد هذا الوعد ، وصادق بدخولهم
المسجد الحرام عام حجة الوداع ، وعدم الخوف فيه أظهر . وأما دخولهم
مكة يوم الفتح فلم يكونوا فيه محرمين . قال
مالك في الموطأ بعد أن ساق حديث قتل
ابن خطل يوم الفتح ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ محرما والله أعلم .
و
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=27محلقين رءوسكم حال من ضمير آمنين وعطف عليه ومقصرين والتحليق والتقصير كناية عن التمكن من إتمام الحج والعمرة وذلك من استمرار الأمن على أن هذه الحالة حكت ما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم في رؤياه ، أي يحلق من رام الحلق ويقصر من رام التقصير ، أي لا يعجلهم الخوف عن الحلق فيقتصروا على التقصير .
وجملة
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=27لا تخافون في موضع الحال فيجوز أن تكون مؤكدة لـ " آمنين " تأكيدا بالمرادف للدلالة على أن الأمن كامل محقق ، ويجوز أن تكون حالا مؤسسة على أن " آمنين " معمول لفعل " تدخلن " وأن " لا تخافون " معمول لـ " آمنين " ، أي آمنين أمن من لا يخاف ، أي لا تخافون غدرا . وذلك إيماء إلى أنهم يكونون أشد قوة من عدوهم الذي أمنهم ، وهذا يومئ إلى حكمة تأخير دخولهم
مكة إلى عام قابل حيث يزدادون قوة واستعدادا وهو أظهر في دخولهم عام حجة الوداع .
والفاء في قوله : "
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=27فعلم ما لم تعلموا " لتفريع الأخبار لا لتفريع المخبر به لأن علم الله سابق على دخولهم وعلى الرؤيا المؤذنة بدخولهم كما تقدم في قوله تعالى فعلم ما في قلوبهم .
وفي إيثار فعل جعل في هذا التركيب دون أن يقول : فتح لكم من دون ذلك فتحا قريبا أو نحوه إفادة أن هذا الفتح أمره عجيب ما كان ليحصل مثله لولا أن الله كونه ، وصيغة الماضي في " جعل " لتنزيل المستقبل المحقق منزلة الماضي ، أو لأن " جعل " بمعنى ( قدر ) . و ( دون ) هنا بمعنى ( غير ) ، و ( من ) ابتدائية أو
[ ص: 201 ] بيانية . والمعنى : فجعل فتحا قريبا لكم زيادة على ما وعدكم من دخول
مكة آمنين . وهذا الفتح أوله هو فتح خيبر الذي وقع قبل عمرة القضية وهذا القريب من وقت الصلح .
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=27nindex.php?page=treesubj&link=29019_30856_30859لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَاشِئٌ عَنْ قَوْلِهِ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَدَحْضُ مَا خَامَرَ نُفُوسَ فَرِيقٍ مِنَ الْفَشَلِ أَوِ الشَّكِّ أَوِ التَّحَيُّرِ وَتَبْيِينُ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى
أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ مِنْ ثَوَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَى كَشْفِ شُبْهَةٍ عَرَضَتْ لِلْقَوْمِ فِي رُؤْيَا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ذَلِكَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رُؤْيَا قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ ، أَوْ وَهُوَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ : كَأَنَّهُ وَأَصْحَابَهُ قَدْ دَخَلُوا مَكَّةَ آمِنِينَ وَحَلَقُوا وَقَصَّرُوا . هَكَذَا كَانَتِ الرُّؤْيَا مُجْمَلَةً لَيْسَ فِيهَا وُقُوعُ حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ ، وَالْحِلَاقُ وَالتَّقْصِيرُ مُنَاسِبٌ لِكِلَيْهِمَا .
[ ص: 198 ] وَقَصَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُؤْيَاهُ عَلَى أَصْحَابِهِ فَاسْتَبْشَرُوا بِهَا وَعَبَرُوهَا أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ إِلَى
مَكَّةَ بِعُمْرَتِهِمُ الَّتِي خَرَجُوا لِأَجْلِهَا ، فَلَمَّا جَرَى الصُّلْحُ وَتَأَهَّبَ النَّاسُ إِلَى الْقُفُولِ أَثَارَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ ذِكْرَ الرُّؤْيَا فَقَالُوا : فَأَيْنَ الرُّؤْيَا فَوَاللَّهِ مَا دَخَلْنَا
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَلَا حَلَقْنَا وَقَصَّرْنَا ؟ فَقَالَ لَهُمْ
أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إِنَّ الْمَنَامَ لَمْ يَكُنْ مُوَقَّتًا بِوَقْتٍ وَأَنَّهُ سَيُدْخَلُ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ .
وَالْمَعْنَى أَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=31786_30597رُؤْيَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ وَأَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ بِهَا وَأَنَّهَا وَإِنْ لَمْ تَقَعْ فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ فَسَتُحَقَّقُ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي إِرَاءَةِ اللَّهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الرُّؤْيَا أَيَامَئِذٍ وَفِي إِخْبَارِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِهَا : أَنَّ اللَّهَ أَدْخَلَ بِذَلِكَ عَلَى قُلُوبِهِمُ الثِّقَةَ بِقُوَّتِهِمْ وَتَرْبِيَةَ الْجَرَاءَةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي دِيَارِهِمْ فَتَسْلَمُ قُلُوبُهُمْ مِنْ مَاءِ الْجُبْنِ فَإِنَّ الْأَمْرَاضَ النَّفْسِيَّةَ إِذَا اعْتَرَتِ النُّفُوسَ لَا تَلْبَثُ أَنْ تَتْرُكَ فِيهَا بَقَايَا الدَّاءِ زَمَانًا كَمَا تَبْقَى آثَارُ الْمَرَضِ فِي الْعُضْوِ الْمَرِيضِ بَعْدَ النَّقَاهَةِ زَمَانًا حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى الْعُضْوِ قُوَّتُهُ الْأُولَى بَعْدَ مُدَّةِ مُنَاسِبَةٍ .
وَتَوْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ ( قَدْ ) لِإِبْطَالِ شُبْهَةِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالُوا : فَأَيْنَ الرُّؤْيَا ؟ وَمَعْنَى صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا أَنَّهُ أَرَاهُ رُؤْيَا صَادِقَةً لِأَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ فَآلَتْ إِلَى مَعْنَى الْخَبَرِ فَوُصِفَتْ بِالصِّدْقِ لِذَلِكَ .
وَهَذَا تَطْمِينٌ لَهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ فِي حِينِ نُزُولِ الْآيَةِ لَمَّا يَحْصُلْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَتَعْدِيَةُ " صَدَقَ " إِلَى مَنْصُوبٍ ثَانٍ بَعْدَ مَفْعُولِهِ مِنَ النَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ الْمُسَمَّى بِالْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ ، أَيْ حَذْفِ الْجَارِّ وَإِيصَالِ الْفِعْلِ إِلَى الْمَجْرُورِ بِالْعَمَلِ فِيهِ النَّصْبَ . وَأَصْلُ الْكَلَامِ : صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ فِي الرُّؤْيَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ .
وَالْبَاءُ فِي بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ وَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ وَقَعَ صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ ، أَيْ صِدْقًا مُلَابِسًا الْحَقَّ ، أَوْ وُقُوعٍ حَالًا صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ ، أَيْ صِدْقًا مُلَابِسًا وَقَعَ حَالًا مِنَ الرُّؤْيَا .
[ ص: 199 ] وَالْحَقُّ : الْغَرَضُ الصَّحِيحُ وَالْحِكْمَةُ ، أَيْ كَانَتْ رُؤْيَا صَادِقَةً وَكَانَتْ مَجْعُولَةً مُحْكَمَةً وَهِيَ مَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا .
وَجُمْلَةُ
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=27لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِلَى آخِرِهَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِجُمْلَةِ صَدَقَ اللَّهُ لِأَنَّ مَعْنَى لَتَدْخُلُنَّ تَحْقِيقُ دُخُولِ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ الرُّؤْيَا إِخْبَارٌ بِدُخُولٍ لَمْ يُعَيَّنْ زَمَنُهُ فَهِيَ صَادِقَةٌ فِيمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ . وَهَذَا تَنْبِيهٌ لِلَّذِينَ لَمْ يَتَفَطَّنُوا لِذَلِكَ فَجَزَمُوا بِأَنَّ رُؤْيَا دُخُولِ الْمَسْجِدِ تَقْتَضِي دُخُولَهُمْ إِلَيْهِ أَيَّامَئِذٍ وَمَا ذَلِكَ بِمَفْهُومٍ مِنَ الرُّؤْيَا وَكَانَ حَقَّهُمْ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهَا وَعْدٌ لَمْ يُعَيَّنْ إِبَّانَ مَوْعُودِهِ وَقَدْ فَهِمَ ذَلِكَ
أَبُو بَكْرٍ إِذْ قَالَ لَهُمْ : إِنَّ الْمَنَامَ لَمْ يَكُنْ مُوَقَّتًا بِوَقْتٍ وَأَنَّهُ سَيَدْخُلُ . وَقَدْ جَاءَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ .
وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانًا لِلرُّؤْيَا لِأَنَّ صِيغَةَ الْقَسَمِ لَا تُلَائِمُ ذَلِكَ .
وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا عَنْ جُمْلَةِ "
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=27صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ " أَيْ سَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا مَحَالَةَ فَيَنْبَغِي الْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ بِالْحَقِّ لِيَظْهَرَ مَعْنَى الِاسْتِئْنَافِ .
وَقَوْلُهُ "
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=27إِنْ شَاءَ اللَّهُ " مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُذَيَّلَ بِهِ الْخَبَرُ الْمُسْتَقْبَلُ إِذَا كَانَ حُصُولُهُ مُتَرَاخِيًا ، أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِي يُقَالُ لَهُ : افْعَلْ كَذَا ، فَيَقُولُ : أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، لَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ فِي الْحَالِ أَوْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الْقَرِيبِ بَلْ يَفْعَلُهُ بَعْدَ زَمَنٍ وَلَكِنْ مَعَ تَحْقِيقِ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ .
وَلِذَلِكَ تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُوسُفَ
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=99وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ أَنَّ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ " لِلدُّخُولِ مَعَ تَقْدِيرِ الْأَمْنِ لِأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ حِينَ قَدْ دَخَلُوا
مِصْرَ . أَمَّا مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ فَلَا يُنَاسِبُهُ هَذَا الْمَحْمَلُ . وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنَصُّلَ مِنِ الْتِزَامِ الْوَعْدِ ، وَهَذَا مِنِ اسْتِعْمَالَاتِ كَلِمَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ . فَلَيْسَ هُوَ مِثْلَ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْيَمِينِ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ لِلثُّنْيَا لِأَنَّهَا فِي مَوْضِعِ قَوْلِهِمْ : إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ، لِأَنَّ مَعْنَى : إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ : عَدَمُ الْفِعْلِ ، وَأَمَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، الَّتِي تَقَعُ مَوْقِعَ : إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ، فَمَعْنَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْفِعْلَ .
[ ص: 200 ] وَالْمَوْعُودُ بِهِ صَادِقٌ بِدُخُولِهِمْ
مَكَّةَ بِالْعُمْرَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَهِيَ عُمْرَةُ الْقَضِيَّةِ ، فَإِنَّهُمْ دَخَلُوا
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ آمِنِينَ وَحَلَقَ بَعْضُهُمْ وَقَصَّرَ بَعْضٌ غَيْرَ خَائِفِينَ إِذْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ ، وَذَلِكَ أَقْرَبُ دُخُولٍ بَعْدَ هَذَا الْوَعْدِ ، وَصَادِقٌ بِدُخُولِهِمُ
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ ، وَعَدَمُ الْخَوْفِ فِيهِ أَظْهَرُ . وَأَمَّا دُخُولُهُمْ
مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَلَمْ يَكُونُوا فِيهِ مُحْرِمِينَ . قَالَ
مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ قَتْلِ
ابْنِ خَطَلٍ يَوْمَ الْفَتْحِ وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ مُحْرِمًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَ
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=27مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ آمِنِينَ وَعَطَفَ عَلَيْهِ وَمُقَصِّرِينَ وَالتَّحْلِيقُ وَالتَّقْصِيرُ كِنَايَةٌ عَنِ التَّمَكُّنِ مِنْ إِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَذَلِكَ مِنِ اسْتِمْرَارِ الْأَمْنِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ حَكَتْ مَا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رُؤْيَاهُ ، أَيْ يَحْلِقُ مَنْ رَامَ الْحَلْقَ وَيُقَصِّرُ مَنْ رَامَ التَّقْصِيرَ ، أَيْ لَا يُعْجِلُهُمُ الْخَوْفُ عَنِ الْحَلْقِ فَيَقْتَصِرُوا عَلَى التَّقْصِيرِ .
وَجُمْلَةُ
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=27لَا تَخَافُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُؤَكِّدَةً لِـ " آمَنِينَ " تَأْكِيدًا بِالْمُرَادِفِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْأَمْنَ كَامِلٌ مُحَقَّقٌ ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مُؤَسَّسَةً عَلَى أَنَّ " آمِنِينَ " مَعْمُولٌ لِفِعْلِ " تَدْخُلُّنَ " وَأَنَّ " لَا تَخَافُونَ " مَعْمُولٌ لِـ " آمِنِينَ " ، أَيْ آمَنِينَ أَمْنَ مَنْ لَا يَخَافُ ، أَيْ لَا تَخَافُونَ غَدْرًا . وَذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ يَكُونُونَ أَشَدَّ قُوَّةً مِنْ عَدُوِّهِمُ الَّذِي أَمِنَهُمْ ، وَهَذَا يُومِئُ إِلَى حِكْمَةِ تَأْخِيرِ دُخُولِهِمْ
مَكَّةَ إِلَى عَامٍ قَابِلٍ حَيْثُ يَزْدَادُونَ قُوَّةً وَاسْتِعْدَادًا وَهُوَ أَظْهَرُ فِي دُخُولِهِمْ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ .
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ : "
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=27فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا " لِتَفْرِيعِ الْأَخْبَارِ لَا لِتَفْرِيعِ الْمُخْبَرِ بِهِ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ سَابِقٌ عَلَى دُخُولِهِمْ وَعَلَى الرُّؤْيَا الْمُؤْذِنَةِ بِدُخُولِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ .
وَفِي إِيثَارِ فِعْلِ جَعَلَ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ دُونَ أَنْ يَقُولَ : فَتَحَ لَكُمْ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا أَوْ نَحْوَهُ إِفَادَةُ أَنَّ هَذَا الْفَتْحَ أَمْرُهُ عَجِيبٌ مَا كَانَ لِيَحْصُلَ مِثْلُهُ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ كَوَّنَهُ ، وَصِيغَةُ الْمَاضِي فِي " جَعَلَ " لِتَنْزِيلِ الْمُسْتَقْبَلِ الْمُحَقَّقِ مَنْزِلَةَ الْمَاضِي ، أَوْ لِأَنَّ " جَعَلَ " بِمَعْنَى ( قَدَّرَ ) . وَ ( دُونِ ) هُنَا بِمَعْنَى ( غَيْرِ ) ، وَ ( مِنْ ) ابْتِدَائِيَّةٌ أَوْ
[ ص: 201 ] بَيَانِيَّةٌ . وَالْمَعْنَى : فَجَعَلَ فَتْحًا قَرِيبًا لَكُمْ زِيَادَةً عَلَى مَا وَعَدَكُمْ مِنْ دُخُولِ
مَكَّةَ آمِنِينَ . وَهَذَا الْفَتْحُ أَوَّلُهُ هُوَ فَتْحُ خَيْبَرَ الَّذِي وَقَعَ قَبْلَ عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ وَهَذَا الْقَرِيبُ مِنْ وَقْتِ الصُّلْحِ .