[ ص: 151 ] النوع الثامن والخمسون في بدائع القرآن .
أفرده بالتصنيف
ابن أبي الإصبع ، فأورد فيه نحو مائة نوع ، وهي : المجاز ، والاستعارة ، والتشبيه ، والكناية ، والإرداف ، والتمثيل ، والإيجاز ، والاتساع ، والإشارة ، والمساواة ، والبسط ، والإيغال ، والتتميم ، والتكميل والاحتراس ، والاستقصاء ، والتذييل ، والزيادة ، والترديد ، والتكرار ، والتفسير ، والإيضاح ، ونفي الشيء بإيجابه ، والمذهب الكلامي ، والقول بالموجب ، والمناقضة ، والانتقال ، والإسجال ، والتسليم ، والتمكين ، والتوشيح ، والتسهيم ، ورد العجز على الصدر ، وتشابه الأطراف ، ولزوم ما لا يلزم ، والتخيير ، والتسجيع ، والتسريع ، والإبهام - وهو التورية - والاستخدام ، والالتفات ، والاستطراد ، والاطراد ، والانسجام ، والإدماج ، والافتنان ، والاقتدار ، وائتلاف اللفظ مع اللفظ ، وائتلاف اللفظ مع المعنى ، والاستدراك ، والاستثناء ، وتأكيد المدح بما يشبه الذم ، والتخويف ، والتغاير ، والتقسيم ، والتدبيج ، والتنكيت ، والتضمين ، والجناس ، وجمع المؤتلف والمختلف ، وحسن النسق ، وعتاب المرء نفسه ، والعكس ، والعنوان ، والفرائد ، والقسم ، والمبالغة ، والمطابقة ، والمقابلة ، والمواربة ، والمراجعة ، والنزاهة ، والإبداع ، والمقارنة ، وحسن الابتداء ، وحسن الختام ، وحسن التخلص ، والاستطراد .
فأما المجاز وما بعده إلى الإيضاح ، فقد تقدم بعضها في أنواع مفردة ، وبعضها في نوع الإيجاز والإطناب مع أنواع أخر ؛ كالتعريض ، والاحتباك ، والاكتفاء ، والطرد ، والعكس . وأما نفي الشيء بإيجابه : فقد تقدم في النوع الذي قبل هذا .
وأما المذهب الكلامي والخمسة بعده ، فستأتي في نوع الجدل مع أنواع أخر مزيدة .
وأما التمكين والثمانية بعده فستأتي في أنواع الفواصل .
وأما حسن التخلص والاستطراد فسيأتيان في نوع المناسبات .
[ ص: 152 ] وأما حسن الابتداء وبراعة الختام فسيأتيان في نوعي الفواتح والخواتم . وها أنا أورد الباقي مع زوائده ونفائس لا توجد مجموعة في غير هذا الكتاب .
الإيهام .
الإيهام : ويدعى التورية : أن يذكر لفظ له معنيان - إما بالاشتراك ، أو التواطؤ ، أو الحقيقة والمجاز - أحدهما قريب والآخر بعيد ، ويقصد البعيد ، ويورى عنه بالقريب ، فيتوهمه السامع من أول وهلة .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : لا ترى بابا في البيان أدق ولا ألطف من التورية ، ولا أنفع ولا أعون على تعاطي تأويل المتشابهات في كلام الله ورسوله .
قال : ومن أمثلتها :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=5الرحمن على العرش استوى [ طه : 5 ] ، فإن الاستواء على معنيين : الاستقرار في المكان ؛ وهو المعنى القريب المورى به الذي هو غير مقصود ، لتنزيهه تعالى عنه . والثاني : الاستيلاء والملك ؛ وهو المعنى البعيد المقصود الذي ورى عنه بالقريب المذكور . انتهى .
وهذه التورية تسمى مجردة ؛ لأنها لم يذكر فيها شيء من لوازم المورى به ولا المورى عنه .
ومنها : ما تسمى مرشحة ، وهي التي ذكر فيها شيء من لوازم هذا أو هذا كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=47والسماء بنيناها بأيد [ الذاريات : 47 ] ، فإنه يحتمل الجارحة ؛ وهو المورى به ، وقد ذكر من لوازمه على جهة الترشيح البنيان ، ويحتمل القوة والقدرة ؛ وهو البعيد المقصود .
قال
ابن أبي الإصبع في كتابه " الإعجاز " : ومنها :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=95قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم [ يوسف : 95 ] ، فالضلال يحتمل الحب ، وضد الهدى ، فاستعمل أولاد
يعقوب ضد الهدى تورية عن الحب .
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=92فاليوم ننجيك ببدنك [ يونس : 92 ] ، على تفسيره بالدرع ، فإن البدن يطلق عليه وعلى الجسد ، والمراد البعيد ؛ وهو الجسد .
قال : ومن ذلك قوله عند ذكر أهل الكتاب من
اليهود والنصارى حيث قال :
[ ص: 153 ] nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=145ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم [ البقرة : 145 ] ، ولما كان الخطاب
لموسى من الجانب الغربي ، وتوجهت إليه
اليهود ، وتوجهت
النصارى إلى المشرق ، كانت قبلة الإسلام وسطا بين القبلتين ، قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=143وكذلك جعلناكم أمة وسطا [ البقرة : 143 ] ؛ أي : خيارا ، وظاهر اللفظ يوهم التوسط مع ما يعضده من توسط قبلة المسلمين ، صدق على لفظة ( وسط ) هاهنا أن يسمي تعالى به لاحتمالها المعنيين ، ولما كان المراد أبعدهما - وهو الخيار - صلحت أن تكون من أمثلة التورية .
قلت : وهي مرشحة بلازم المورى عنه ، وهو قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=143لتكونوا شهداء على الناس [ البقرة : 143 ] ، فإنه من لوازم كونهم خيارا ؛ أي : عدولا ، والإتيان قبلها من قسم المجردة . ومن ذلك قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=6والنجم والشجر يسجدان [ الرحمن : 6 ] ، فإن النجم يطلق على الكوكب ، ويرشحه له ذكر الشمس والقمر ، وعلى ما لا ساق له من النبات ، وهو المعنى البعيد له ، وهو المقصود في الآية .
ونقلت من خط شيخ الإسلام
ابن حجر أن من التورية في القرآن قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=28وما أرسلناك إلا كافة للناس [ سبإ : 28 ] ، فإن ( كافة ) بمعنى ( مانع ) ؛ أي : تكفهم عن الكفر والمعصية ، والهاء للمبالغة ، وهو معنى بعيد ، والمعنى القريب المتبادر أن المراد ( جامعة ) بمعنى ( جميعا ) ، لكن منع من حمله على ذلك أن التأكيد يتراخى عن المؤكد ، فكما لا تقول : رأيت جميعا الناس ، لا تقول : رأيت كافة الناس .
الاستخدام : هو والتورية أشرف أنواع البديع ، وهما سيان ، بل فضله بعضهم عليها . ولهم فيه عبارتان :
إحداهما : أن يؤتى بلفظ له معنيان فأكثر مرادا به أحد معانيه ، ثم يؤتى بضميره مرادا به المعنى الآخر . وهذه طريق
السكاكي وأتباعه .
والأخرى أن يؤتى بلفظ مشترك ، ثم بلفظين يفهم من أحدهما أحد المعنيين ومن الآخر الآخر ، وهذه طريقة
بدر الدين بن مالك في المصباح ، ومشى عليها
ابن أبي الإصبع ومثل له بقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=38لكل أجل كتاب [ الرعد : 38 ] الآية ، فلفظ ( كتاب ) يحتمل الأمد المحتوم ، والكتاب المكتوب ، فلفظ ( أجل ) يخدم المعنى الأول ، و ( يمحو ) يخدم الثاني .
ومثل غيره بقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=43لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى [ النساء : 43 ] ، فالصلاة
[ ص: 154 ] تحتمل أن يراد بها فعلها وموضعها ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=43حتى تعلموا ما تقولون [ النساء : 43 ] ، يخدم الأول
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=43إلا عابري سبيل [ النساء : 43 ] ، يخدم الثاني .
قيل : ولم يقع في القرآن على طريقة
السكاكي .
قلت : وقد استخرجت بفكري آيات على طريقته ، منها : قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=1أتى أمر الله فأمر الله يراد به قيام الساعة ، والعذاب ، وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد أريد بلفظه الأخير كما أخرج
ابن مردويه من طريق
الضحاك عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=1أتى أمر الله قال :
محمد : وأعيد الضمير عليه في :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=1تستعجلوه [ النحل : 1 ] ، مرادا به قيام الساعة والعذاب .
ومنها - وهي أظهرها - قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=12ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين [ المؤمنون : 12 ] ، فإن المراد به
آدم ، ثم أعاد عليه الضمير مرادا به ولده ، ثم قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=13ثم جعلناه نطفة في قرار مكين [ المؤمنون : 13 ] .
ومنها : قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=101لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم [ المائدة : 101 ] ، ثم قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=102قد سألها قوم من قبلكم [ المائدة : 102 ] ؛ أي : أشياء أخر; لأن الأولين لم يسألوا عن الأشياء التي سأل عنها الصحابة فنهوا عن سؤالها .
[ ص: 151 ] النَّوْعُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ فِي بَدَائِعِ الْقُرْآنِ .
أَفْرَدَهُ بِالتَّصْنِيفِ
ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ ، فَأَوْرَدَ فِيهِ نَحْوَ مِائَةِ نَوْعٍ ، وَهِيَ : الْمَجَازُ ، وَالِاسْتِعَارَةُ ، وَالتَّشْبِيهُ ، وَالْكِنَايَةُ ، وَالْإِرْدَافُ ، وَالتَّمْثِيلُ ، وَالْإِيجَازُ ، وَالِاتِّسَاعُ ، وَالْإِشَارَةُ ، وَالْمُسَاوَاةُ ، وَالْبَسْطُ ، وَالْإِيغَالُ ، وَالتَّتْمِيمُ ، وَالتَّكْمِيلُ وَالِاحْتِرَاسُ ، وَالِاسْتِقْصَاءُ ، وَالتَّذْيِيلُ ، وَالزِّيَادَةُ ، وَالتَّرْدِيدُ ، وَالتَّكْرَارُ ، وَالتَّفْسِيرُ ، وَالْإِيضَاحُ ، وَنَفْيُ الشَّيْءِ بِإِيجَابِهِ ، وَالْمَذْهَبُ الْكَلَامِيُّ ، وَالْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ ، وَالْمُنَاقَضَةُ ، وَالِانْتِقَالُ ، وَالْإِسْجَالُ ، وَالتَّسْلِيمُ ، وَالتَّمْكِينُ ، وَالتَّوْشِيحُ ، وَالتَّسْهِيمُ ، وَرَدُّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ ، وَتَشَابُهُ الْأَطْرَافِ ، وَلُزُومُ مَا لَا يَلْزَمُ ، وَالتَّخْيِيرُ ، وَالتَّسْجِيعُ ، وَالتَّسْرِيعُ ، وَالْإِبْهَامُ - وَهُوَ التَّوْرِيَةُ - وَالِاسْتِخْدَامُ ، وَالِالْتِفَاتُ ، وَالِاسْتِطْرَادُ ، وَالِاطِّرَادُ ، وَالِانْسِجَامُ ، وَالْإِدْمَاجُ ، وَالِافْتِنَانُ ، وَالِاقْتِدَارُ ، وَائْتِلَافُ اللَّفْظِ مَعَ اللَّفْظِ ، وَائْتِلَافُ اللَّفْظِ مَعَ الْمَعْنَى ، وَالِاسْتِدْرَاكُ ، وَالِاسْتِثْنَاءُ ، وَتَأْكِيدُ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ ، وَالتَّخْوِيفُ ، وَالتَّغَايُرُ ، وَالتَّقْسِيمُ ، وَالتَّدْبِيجُ ، وَالتَّنْكِيتُ ، وَالتَّضْمِينُ ، وَالْجِنَاسُ ، وَجَمْعُ الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ ، وَحُسْنُ النَّسَقِ ، وَعِتَابُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ ، وَالْعَكْسُ ، وَالْعُنْوَانُ ، وَالْفَرَائِدُ ، وَالْقَسَمُ ، وَالْمُبَالَغَةُ ، وَالْمُطَابَقَةُ ، وَالْمُقَابَلَةُ ، وَالْمُوَارَبَةُ ، وَالْمُرَاجَعَةُ ، وَالنَّزَاهَةُ ، وَالْإِبْدَاعُ ، وَالْمُقَارَنَةُ ، وَحَسَنُ الِابْتِدَاءِ ، وَحَسَنُ الْخِتَامِ ، وَحُسْنُ التَّخَلُّصِ ، وَالِاسْتِطْرَادُ .
فَأَمَّا الْمَجَازُ وَمَا بَعْدَهُ إِلَى الْإِيضَاحِ ، فَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا فِي أَنْوَاعٍ مُفْرَدَةٍ ، وَبَعْضُهَا فِي نَوْعِ الْإِيجَازِ وَالْإِطْنَابِ مَعَ أَنْوَاعٍ أُخَرَ ؛ كَالتَّعْرِيضِ ، وَالِاحْتِبَاكِ ، وَالِاكْتِفَاءِ ، وَالطَّرْدِ ، وَالْعَكْسِ . وَأَمَّا نَفْيُ الشَّيْءِ بِإِيجَابِهِ : فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي النَّوْعِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا .
وَأَمَّا الْمَذْهَبُ الْكَلَامِيُّ وَالْخَمْسَةُ بَعْدَهُ ، فَسَتَأْتِي فِي نَوْعِ الْجَدَلِ مَعَ أَنْوَاعٍ أُخَرَ مَزِيدَةٍ .
وَأَمَّا التَّمْكِينُ وَالثَّمَانِيَةُ بَعْدَهُ فَسَتَأْتِي فِي أَنْوَاعِ الْفَوَاصِلِ .
وَأَمَّا حُسْنُ التَّخَلُّصِ وَالِاسْتِطْرَادِ فَسَيَأْتِيَانِ فِي نَوْعِ الْمُنَاسَبَاتِ .
[ ص: 152 ] وَأَمَّا حُسْنُ الِابْتِدَاءِ وَبَرَاعَةُ الْخِتَامِ فَسَيَأْتِيَانِ فِي نَوْعَيِ الْفَوَاتِحِ وَالْخَوَاتِمِ . وَهَا أَنَا أُورِدُ الْبَاقِيَ مَعَ زَوَائِدِهِ وَنَفَائِسَ لَا تُوجَدُ مَجْمُوعَةً فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ .
الْإِيهَامُ .
الْإِيهَامُ : وَيُدْعَى التَّوْرِيَةَ : أَنْ يُذْكَرَ لَفْظٌ لَهُ مَعْنَيَانِ - إِمَّا بِالِاشْتِرَاكِ ، أَوِ التَّوَاطُؤِ ، أَوِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ - أَحَدُهُمَا قَرِيبٌ وَالْآخَرُ بَعِيدٌ ، وَيُقْصَدُ الْبَعِيدُ ، وَيُوَرَّى عَنْهُ بِالْقَرِيبِ ، فَيَتَوَهَّمُهُ السَّامِعُ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ .
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ : لَا تَرَى بَابًا فِي الْبَيَانِ أَدَقَّ وَلَا أَلْطَفَ مِنَ التَّوْرِيَةِ ، وَلَا أَنْفَعَ وَلَا أَعْوَنَ عَلَى تَعَاطِي تَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهَاتِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ .
قَالَ : وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=5الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [ طَه : 5 ] ، فَإِنَّ الِاسْتِوَاءَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ : الِاسْتِقْرَارُ فِي الْمَكَانِ ؛ وَهُوَ الْمَعْنَى الْقَرِيبُ الْمُوَرَّى بِهِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ ، لِتَنْزِيهِهِ تَعَالَى عَنْهُ . وَالثَّانِي : الِاسْتِيلَاءُ وَالْمُلْكُ ؛ وَهُوَ الْمَعْنَى الْبَعِيدُ الْمَقْصُودُ الَّذِي وَرَّى عَنْهُ بِالْقَرِيبِ الْمَذْكُورِ . انْتَهَى .
وَهَذِهِ التَّوْرِيَةُ تُسَمَّى مُجَرَّدَةً ؛ لِأَنَّهَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ لَوَازِمِ الْمُوَرَّى بِهِ وَلَا الْمُوَرَّى عَنْهُ .
وَمِنْهَا : مَا تُسَمَّى مُرَشَّحَةً ، وَهِيَ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ لَوَازِمَ هَذَا أَوْ هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=47وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [ الذَّارِيَاتِ : 47 ] ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْجَارِحَةَ ؛ وَهُوَ الْمُوَرَّى بِهِ ، وَقَدْ ذُكِرَ مِنْ لَوَازِمِهِ عَلَى جِهَةِ التَّرْشِيحِ الْبُنْيَانُ ، وَيَحْتَمِلُ الْقُوَّةَ وَالْقُدْرَةَ ؛ وَهُوَ الْبَعِيدُ الْمَقْصُودُ .
قَالَ
ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ فِي كِتَابِهِ " الْإِعْجَازُ " : وَمِنْهَا :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=95قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ [ يُوسُفَ : 95 ] ، فَالضَّلَالُ يَحْتَمِلُ الْحُبَّ ، وَضِدَّ الْهُدَى ، فَاسْتَعْمَلَ أَوْلَادُ
يَعْقُوبَ ضِدَّ الْهُدَى تَوْرِيَةً عَنِ الْحُبِّ .
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=92فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ [ يُونُسَ : 92 ] ، عَلَى تَفْسِيرِهِ بِالدِّرْعِ ، فَإِنَّ الْبَدَنَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْجَسَدِ ، وَالْمُرَادُ الْبَعِيدُ ؛ وَهُوَ الْجَسَدُ .
قَالَ : وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عِنْدَ ذِكْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى حَيْثُ قَالَ :
[ ص: 153 ] nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=145وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ [ الْبَقَرَةِ : 145 ] ، وَلَمَّا كَانَ الْخِطَابُ
لِمُوسَى مِنَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ ، وَتَوَجَّهَتْ إِلَيْهِ
الْيَهُودُ ، وَتَوَجَّهَتِ
النَّصَارَى إِلَى الْمَشْرِقِ ، كَانَتْ قِبْلَةُ الْإِسْلَامِ وَسَطًا بَيْنَ الْقِبْلَتَيْنِ ، قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=143وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [ الْبَقَرَةِ : 143 ] ؛ أَيْ : خِيَارًا ، وَظَاهِرُ اللَّفْظِ يُوهِمُ التَّوَسُّطَ مَعَ مَا يُعَضِّدُهُ مِنْ تَوَسُّطِ قِبْلَةِ الْمُسْلِمِينَ ، صَدَقَ عَلَى لَفْظَةِ ( وَسَطٍ ) هَاهُنَا أَنْ يُسَمِّي تَعَالَى بِهِ لِاحْتِمَالِهَا الْمَعْنَيَيْنِ ، وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ أَبْعَدَهُمَا - وَهُوَ الْخِيَارُ - صَلُحَتْ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَمْثِلَةِ التَّوْرِيَةِ .
قُلْتُ : وَهِيَ مُرَشَّحَةٌ بِلَازِمِ الْمُوَرَّى عَنْهُ ، وَهُوَ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=143لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [ الْبَقَرَةِ : 143 ] ، فَإِنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ كَوْنِهِمْ خِيَارًا ؛ أَيْ : عُدُولًا ، وَالْإِتْيَانُ قَبْلَهَا مِنْ قِسْمِ الْمُجَرَّدَةِ . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=6وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ [ الرَّحْمَنِ : 6 ] ، فَإِنَّ النَّجْمَ يُطْلَقُ عَلَى الْكَوْكَبِ ، وَيُرَشِّحُهُ لَهُ ذِكْرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ، وَعَلَى مَا لَا سَاقَ لَهُ مِنَ النَّبَاتِ ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْبَعِيدُ لَهُ ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ فِي الْآيَةِ .
وَنَقَلْتُ مِنْ خَطِّ شَيْخِ الْإِسْلَامِ
ابْنِ حَجَرٍ أَنَّ مِنَ التَّوْرِيَةِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلَهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=28وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [ سَبَإٍ : 28 ] ، فَإِنَّ ( كَافَّةً ) بِمَعْنَى ( مَانِعٍ ) ؛ أَيْ : تَكُفُّهُمْ عَنِ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ ، وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ ، وَهُوَ مَعْنًى بَعِيدٌ ، وَالْمَعْنَى الْقَرِيبُ الْمُتَبَادِرُ أَنَّ الْمُرَادَ ( جَامِعَةً ) بِمَعْنَى ( جَمِيعًا ) ، لَكِنْ مَنَعَ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ التَّأْكِيدَ يَتَرَاخَى عَنِ الْمُؤَكَّدِ ، فَكَمَا لَا تَقُولُ : رَأَيْتُ جَمِيعًا النَّاسَ ، لَا تَقُولُ : رَأَيْتُ كَافَّةً الناسَ .
الِاسْتِخْدَامُ : هُوَ وَالتَّوْرِيَةُ أَشْرَفُ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ ، وَهُمَا سِيَّانِ ، بَلْ فَضَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَيْهَا . وَلَهُمْ فِيهِ عِبَارَتَانِ :
إِحْدَاهُمَا : أَنْ يُؤْتَى بِلَفْظٍ لَهُ مَعْنَيَانِ فَأَكْثَرُ مُرَادًا بِهِ أَحَدُ مَعَانِيهِ ، ثُمَّ يُؤْتَى بِضَمِيرِهِ مُرَادًا بِهِ الْمَعْنَى الْآخَرُ . وَهَذِهِ طَرِيقُ
السَّكَّاكِيِّ وَأَتْبَاعِهِ .
وَالْأُخْرَى أَنْ يُؤْتَى بِلَفْظٍ مُشْتَرَكٍ ، ثُمَّ بِلَفْظَيْنِ يُفْهَمُ مِنْ أَحَدِهِمَا أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ وَمِنَ الْآخَرِ الْآخَرُ ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ
بَدْرِ الدِّينِ بْنِ مَالِكٍ فِي الْمِصْبَاحِ ، وَمَشَى عَلَيْهَا
ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ وَمَثَّلَ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=38لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ [ الرَّعْدِ : 38 ] الْآيَةَ ، فَلَفْظُ ( كِتَابٍ ) يَحْتَمِلُ الْأَمَدَ الْمَحْتُومَ ، وَالْكِتَابَ الْمَكْتُوبَ ، فَلَفْظُ ( أَجْلٍ ) يَخْدِمُ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ ، وَ ( يَمْحُو ) يَخْدِمُ الثَّانِي .
وَمَثَّلَ غَيْرُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=43لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [ النِّسَاءِ : 43 ] ، فَالصَّلَاةُ
[ ص: 154 ] تَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا فِعْلُهَا وَمَوْضِعُهَا ، وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=43حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [ النِّسَاءِ : 43 ] ، يَخْدِمُ الْأَوَّلَ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=43إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ [ النِّسَاءِ : 43 ] ، يَخْدِمُ الثَّانِي .
قِيلَ : وَلَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ عَلَى طَرِيقَةِ
السَّكَّاكِيِّ .
قُلْتُ : وَقَدِ اسْتَخْرَجْتُ بِفِكْرِي آيَاتٍ عَلَى طَرِيقَتِهِ ، مِنْهَا : قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=1أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَأَمْرُ اللَّهِ يُرَادُ بِهِ قِيَامُ السَّاعَةِ ، وَالْعَذَابُ ، وَبِعْثَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَدْ أُرِيدَ بِلَفْظِهِ الْأَخِيرِ كَمَا أَخْرَجَ
ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ
الضَّحَاكِ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=1أَتَى أَمْرُ اللَّهِ قَالَ :
مُحَمَّدٌ : وَأُعِيدَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ فِي :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=1تَسْتَعْجِلُوهُ [ النَّحْلِ : 1 ] ، مُرَادًا بِهِ قِيَامُ السَّاعَةِ وَالْعَذَابُ .
وَمِنْهَا - وَهِيَ أَظْهَرُهَا - قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=12وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ [ الْمُؤْمِنُونَ : 12 ] ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ
آدَمُ ، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرَ مُرَادًا بِهِ وَلَدُهُ ، ثُمَّ قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=13ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ [ الْمُؤْمِنُونَ : 13 ] .
وَمِنْهَا : قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=101لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [ الْمَائِدَةِ : 101 ] ، ثُمَّ قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=102قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ [ الْمَائِدَةِ : 102 ] ؛ أَيْ : أَشْيَاءُ أُخَرُ; لِأَنَّ الْأَوَّلِينَ لَمْ يَسْأَلُوا عَنِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا الصَّحَابَةُ فَنُهُوا عَنْ سُؤَالِهَا .