الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل في سيرة نبيه صلى الله عليه وسلم عبرة للمعتبرين، وهدى للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه، الصادق الوعد الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران:102)..
أما بعد:
أيها المؤمنون..
لقد كانت الهجرة النبوية مِنْ مكة المكرمة إلى المدينة المنورة حدثا تاريخيا عظيما، وإذا كانت عظمة الأحداث تُقاس بعظمة ما جرى فيها والقائمين بها، فقد كان القائم بالحدث هو أشرف وأعظم الخَلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الهجرة فيصلاً بين مرحلتين، المرحلة المكية والمرحلة المدنية، وقد غيرت الهجرة النبوية مجرى التاريخ، وحملت في طياتها معاني التضحية، وجعلها الله طريقا للنصر ورفع راية الإسلام، قال الله تعالى: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}(التوبة:40).
والهجرة كغيرها مِنْ أحداث السيرة النبوية مليئة بالدروس والعِبر، تُنير لنا الطريق في زمن اشتدت فيه الظلمات وتكاثرت فيه الفتن، ونستلهم منها معاني القدوة والأسوة، ونستخرج منها مناهج حياة، ومفاتيح فلاح، وسبل صلاح..
نعم، أيها الإخوة الكرام، ففي طريق الهجرة سطَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم الكثير من الدروس، التي تحتاجها الأمة في كل زمان ومكان..
ومن هذه الدروس:
التوكل على الله، مقرونًا بالأخذ بالأسباب المشروعة، وإعداد العُدة، فالتوكل عمل القلوب، والأخذ بالأسباب عمل الجوارح، ولا يتم التوكل الصحيح إلا بهما معًا، وهذا ما جسّده النبي صلى الله عليه وسلم في كل لحظةٍ من لحظات هجرته المباركة..
حين اشتد الخطر، وأحاط به الأعداء، وكان مع صاحبه في غار ثور، يسمعان وقع أقدام المشركين فوق رؤوسهم، قال أبو بكر رضي الله عنه خائفًا على النبي صلى الله عليه وسلم قبل خوفه على نفسه: "لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا"، فيجيبه النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا)..
وفي مشهدٍ وموقف آخر، حين أدرك سُرَاقَةُ بن مالك ـ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وصاحبه، الذي كان يبحث عنهما، للإمساك بهما أو القضاء عليهما لأخذ مكافأة من قريش، قال أبو بكر: "أُتينا يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: لا تحزن إن الله معنا، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فوقع به فرسه، فقال: إني أراكما قد دعوتما عليَّ، فادعوَا لي، ولكما عليَّ أن أرد عنكما"، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فنجا، وأوفى بوعده، فأصبح لا يلقى أحدا من المشركين إلا رده وأبعده عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم، فكان سراقة أول النهار مبالغا في البحث عن النبي صلى الله عليه وسلم ليقتله، وكان آخرَ النهار حارسا له ومدافعا عنه..
عباد الله:
لم يكن قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: (لا تحزن إنَّ الله معنا)، مجرّد تعزية وتصبير له، بل كان إيمانًا ويقينا بالله، لا يعرف القلق، وتوكلاً على الله، لا يستسلم للخوف، ولا يشك لحظة في حفظ الله ونصره وتأييده لعباده المؤمنين..
لكن هذا التوكل، يا عباد الله، كان مقرونًا بالأخذ بأكمل الأسباب وإعداد العُدة..
فقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم وقت الخروج وبداية الهجرة بعناية، وأخفى أمره عن أعين الناس، وسار من طريق غير مألوف، مزيدا في إخفاء جهة سيره الحقيقية، وقد اتفق مع عبد الله بن أريقط الخبير بالطرق والصحراء ليكون لهما دليلا، واختار شخصيات عاقلة أمينة لتقوم بالمعاونة في الهجرة، مع وضع كل فرد في عمله المناسب، الذي يجيد القيام به على أحسن وجه، فعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: ينام في فراشه صلى الله عليه وسلم ليخدع قريش، وعبد الله بن أبي بكر: كاشف تحركات قريش وناقل الأخبار، وأسماء ذات النطاقين: حاملة الزاد من مكة إلى الغار، وعامر بن فهيرة: الراعي يزيل آثار أقدام السير بأغنامه، كيلا يتتبعها المشركون، كل ذلك تخطيط دقيق، وتدبير حكيم، وحرص على الأخذ بالأسباب وإعداد العدة مِن النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته..
ومع ذلك فقد وصل المشركون إلى باب الغار والنبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بداخله، وكاد سراقة أن يصل إليهما، لكن الله عز وجل حفظهما..
فالأخذ بالأسباب واجب ومأمور به، نعم، لكن النتائج بيد الله ومشيئته وحِكمته، والتوكل الحق هو أن تتوكل على الله وتستعين به، وتعمل وتسعى وتأخذ بالأسباب، ثم تفوّض الأمر إلى الله، فإن شاء نجّاك، وإن شاء ابتلاك لحكمة، إنْ شاء شفاك، وإنْ شاء أخر الشفاء، إن شاء رزقك وإن شاء أخر رزقه، فإنه سبحانه العليم الحكيم الخبير، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} أي: كافيه وناصره، ولكن، {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدَرًا}(الطلاق:3)..
فلا تكن من الذين يركنون إلى الأسباب وينسون مسببها، ولا من الذين يتركون الأسباب ثم يقولون: توكلنا!، فكلا الطرفين على خطأ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعقلها وتوكل)، وفي ذلك: البَيان والتأكيد النبوي على الجمع بين الأخْذَ بالأَسبابِ المشروعة والتوكل على الله..
قال ابن تيمية: "الالتفات إلى الأسباب أي الاعتقاد أنها هي النافعة وحدها شرك في التوحيد.. والإعراض عن الأسباب قَدْح وانتقاص في الشرع". وقال الشيخ ابن عثيمين: "التوكل هو صدق الاعتماد على الله عزوجل في جلب المنافع ودفع المضار مع فعل الأسباب التي أمر الله بها"..
عباد الله:
ومن دروس الهجرة النبوية: أن الطريق إلى النصر محفوفٌ بالابتلاء، وأن النصر يُولد من رحم الصبر، وأن من أسباب النصر التوكل على الله وطاعته، والاستعانة به، مع إعداد العُدة والأخذ بالأسباب المشروعة..
ومنها: أن الصحبة الصالحة نعمة لا تُقدّر بثمن، فإنها تأخذ بيدك إلى النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة..
ومن دروسها كذلك: أن العزة في التمسك بهذا الدين، وأن من ترك شيئاً لله عوّضه الله خيرًا منه، ومن حفظ الله حفظه الله، ومن كان مع الله، كان الله معه، بحفظه ونصره وتأييده..
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله، أحمده تعالى وأشكره على ما هدانا للإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمداً عبد الله ورسوله سيد الأنام، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله البَرَرَة الكِرام، وصَحْبِه الأئمَّة الأعلام، والتَّابعين ومَنْ تَبِعَهُم بإحسانٍ إلى يوم الدين..
أما بعد..
أيها المسلمون..
الهجرة النبوية حدث غير مجرى التاريخ، وحمل في طياته معاني الشجاعة والتضحية والصبر والفداء، والعزة والقوة والإخاء، والتوكل على الله وإعداد العدة، إنه الحدث الذي جعله الله بداية لتشييد دولة الإسلام الجديدة، وإقامة صرح حضارته قال تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(التوبة:40)..
ومن معاني ودروس الهجرة ومما ترتب عليها ما أجمعت عليه الأمة في عهد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حين جعل الهجرة النبوية مبدأً للتأريخ الإسلامي، إعلانًا بأن هذه الأمة ذات شخصية مستقلة..
فتأريخنا بالهجرة ليس مجرد رقم، بل رمزٌ لولادة أمة، وانطلاقة حضارة، فكيف يُعقل أن يتخلى بعض أبناء هذه الأمة عن هوية الإسلام بمظاهرها ومعانيها؟! نحن لسنا أمة بلا جذور، نحن أمة القرآن الكريم والسنة النبوية، أمة التاريخ المجيد، أمة النور والتوحيد.. فلا ينبغي أن نُفرّط في ثوابت ديننا، ولا أن ننساق وراء دعاوى الذوبان والتنازل عن الهوية، وقد حَذَّرنا نبينا صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم مِن التَّشبُّهِ بغيرِ المسلِمين، واتبَاعهم في أفعالِهم أو أقوالِهم أو ثيابهم وعاداتِهم وأعيادهم، قال صلى الله عليه وسلم: (من تشبَّهَ بقومٍ فهوَ منهم)..
واعلموا أن - عباد الله - أن هنالك معانٍ وصور أخرى للهجرة باقية في كل زمان ومكان، هجرة القلوب والأرواح، هجرة من التعلُّق بالدنيا إلى التعلُّق بالآخرة، هجرة من ذل المعصية إلى عز الطاعة، ومن البُعد عن الله إلى القُرب منه، ومن أسْر الشهوات إلى حرية الإيمان..
هجرة من التبعية والتقليد الأعمى، إلى الاستقلال بشخصية المسلم وهويته، هجرةٍ من الانهزامية الفكرية إلى الفخر بالإسلام والتمسّك بأخلاقه وثوابته، هجرة من التراخي عن نصرة هذا الدين، إلى حمل رايته والدفاع عنه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسانِهِ ويَدِهِ، والمُهاجِرُ مَن هَجَرَ ما نَهَى اللَّهُ عنْه)..
فكونوا - أيها المسلمون - كما أراد الله لكم، متمسكين بدينكم ثابتين عليه، واجعلوا من الهجرة النبوية وقفة لتجديد العهد مع الله، ومحاسبة النفس، ومراجعة الطريق، واجعلوا من كل يومٍ وساعة، بدايةً جديدة لهجرة إلى الله بطاعته، وهجرة إلى رسوله بالتمسك بهديه وسنته..
اللهم ارزقنا صدق التوكل عليك، وحسن الاستعداد للقائك، وثبّت أقدامنا على طريق الحق والهداية..
اللهم اجعل حاضرنا خيرًا من ماضينا، ومستقبلنا خيرًا من حاضرنا.. اللهم اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم، إنك أنت الأعز الأكرم..
هذا، وصلوا وسلموا رحمكم الله على نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم،