[ ص: 345 ] فصل منزلة الإرادة
nindex.php?page=treesubj&link=29411ومن منازل nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الإرادة
قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=52ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=92&ayano=19وما لأحد عنده من نعمة تجزى nindex.php?page=tafseer&surano=92&ayano=20إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى nindex.php?page=tafseer&surano=92&ayano=21ولسوف يرضى . وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=29وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما .
وقد أشكل على المتكلمين
nindex.php?page=treesubj&link=29723تعلق الإرادة بالله . وكون وجهه تعالى مرادا .
قالوا : الإرادة لا تتعلق إلا بالحادث . وأما بالقديم : فلا ؛ لأن القديم لا يراد .
وأولوا الإرادة المتعلقة به بإرادة التقرب إليه . ثم إنه لا يتصور عندهم التقرب إليه . فأولوا ذلك بإرادة طاعته الموجبة لجزائه .
هذا حاصل ما عندهم . وحجابهم في هذا الباب غليظ كثيف من أغلظ الحجب وأكثفها . ولهذا تجدهم أهل قسوة . ولا تجد عليهم روح السلوك ، ولا بهجة المحبة .
nindex.php?page=treesubj&link=29723والطلب والإرادة عند أرباب السلوك : هي التجرد عن الإرادة . فلا تصح عندهم الإرادة إلا لمن لا إرادة له . ولا تظن أن هذا تناقض . بل هو محض الحق . واتفاق كلمة القوم عليه .
وقد تنوعت عبارات القوم عنها . وغالبهم يخبر عنها بأنها ترك العادة .
ومعنى هذا : أن عادة الناس غالبا التعريج على أوطان الغفلة ، وإجابة داعي الشهوة ، والإخلاد إلى أرض الطبيعة . والمريد منسلخ عن ذلك . فصار خروجه عنه : أمارة ودلالة على صحة الإرادة . فسمي انسلاخه وتركه إرادة .
وقيل : نهوض القلب في طلب الحق .
[ ص: 346 ] ويقال : لوعة تهون كل روعة .
قال
الدقاق : الإرادة لوعة في الفؤاد ، لذعة في القلب ، غرام في الضمير ، انزعاج في الباطن ، نيران تأجج في القلوب .
وقيل : من
nindex.php?page=treesubj&link=29533صفات المريد : التحبب إلى الله بالنوافل ، والإخلاص في نصيحة الأمة ، والأنس بالخلوة ، والصبر على مقاساة الأحكام ، والإيثار لأمره ، والحياء من نظره ، وبذل المجهود في محبوبه . والتعرض لكل سبب يوصل إليه . والقناعة بالخمول . وعدم قرار القلب حتى يصل إلى وليه ومعبوده .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15665حاتم الأصم : إذا رأيت المريد يريد غير مراده ، فاعلم أنه أظهر نذالته .
وقيل : من حكم المريد : أن يكون نومه غلبة ، وأكله فاقة ، وكلامه ضرورة .
وقال بعضهم : نهاية الإرادة : أن تشير إلى الله . فتجده مع الإشارة . فقيل له : وأين تستوعبه الإشارة ؟ فقال : أن تجد الله بلا إشارة . وهذا كلام متين .
فإن
nindex.php?page=treesubj&link=29411المراتب ثلاثة :
أعلاها : أن يكون واجدا لله في كل وقت . لا يتوقف وجوده له على الإشارة منه ولا من غيره .
الثاني : أن يكون له ملكة وحال وإرادة تامة ، بحيث إنه متى أشير له إلى الله وجده عند إشارة المشير .
الثالث : أن لا يكون كذلك ، ويتكلف وجدانه عند الإشارة إليه .
فالمرتبة الأولى : للمقربين السابقين . والوسطى : للأبرار المقتصدين . والثالثة : للغافلين .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12079أبو عثمان الحيري : من لم تصح إرادته ابتداء ، فإنه لا يزيده مرور الأيام عليه إلا إدبارا .
وقال : المريد إذا سمع شيئا من علوم القوم فعمل به : صار حكمة في قلبه إلى آخر عمره ينتفع به . وإذا تكلم انتفع به من سمعه . ومن سمع شيئا من علومهم ولم يعمل به كان حكاية يحفظها أياما ثم ينساها .
وقال
الواسطي : أول مقام المريد : إرادة الحق بإسقاط إرادته .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=17335يحيى بن معاذ : أشد شيء على المريد : معاشرة الأضداد .
وسئل
الجنيد : ما للمريد حظ في مجازات الحكايات ؟ فقال : الحكايات جند من جند الله يثبت الله بها قلوب المريدين . ثم قرأ قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=120وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك .
[ ص: 347 ] وقد ذكر عن
الجنيد كلمتان في الإرادة مجملتان . تحتاج كل منهما إلى تفسير . الكلمة الواحدة : قال
nindex.php?page=showalam&ids=14510أبو عبد الرحمن السلمي : سمعت
nindex.php?page=showalam&ids=17020محمد بن مخلد يقول : سمعت
جعفرا يقول : سمعت
الجنيد يقول : المريد الصادق غني من العلماء .
وقال أيضا : سمعت
الجنيد يقول : إذا أراد الله بالمريد خيرا : أوقعه إلى
الصوفية . ومنعه صحبة القراء .
قلت : إذا صدق المريد ، وصح عقد صدقه مع الله : فتح الله على قلبه ببركة الصدق ، وحسن المعاملة مع الله : ما يغنيه عن العلوم التي هي نتائج أفكار الناس وآرائهم . وعن العلوم التي هي فضلة ليست من زاد القبر . وعن كثير من إشارات
الصوفية وعلومهم ، التي أفنوا فيها أعمارهم : من معرفة النفس وآفاتها وعيوبها ، ومعرفة مفسدات الأعمال ، وأحكام السلوك . فإن حال صدقه ، وصحة طلبه : يريه ذلك كله بالفعل .
ومثال ذلك : رجل قاعد في البلد يدأب ليله ونهاره في علم منازل الطريق وعقباتها وأوديتها ، ومواضع المتاهات فيها ، والموارد والمفاوز . وآخر : حمله الوجد وصدق الإرادة على أن ركب الطريق وسار فيها . فصدقه يغنيه عن علم ذلك القاعد ، ويريه إياها في سلوكه عيانا .
[ ص: 348 ] وأما أن يغنيه صدق إرادته عن علم الحلال والحرام ، وأحكام الأمر والنهي ، ومعرفة العبادات وشروطها وواجباتها ومبطلاتها ، وعن علم أحكام الله ورسوله على ظاهره وباطنه : فقد أعاذ الله من هو دون
الجنيد من ذلك ، فضلا عن سيد الطائفة وإمامها ، وإنما يقول ذلك قطاع الطريق ، وزنادقة
الصوفية وملاحدتهم ، الذين لا يرون اتباع الرسول شرطا في الطريق .
وأيضا فإن المريد الصادق : يفتح الله على قلبه ، وينوره بنور من عنده ، مضاف إلى ما معه من نور العلم ، يعرف به كثيرا من أمر دينه . فيستغني به عن كثير من علم الناس ، فإن العلم نور . وقلب الصادق ممتلئ بنور الصدق . ومعه نور الإيمان . والنور يهدي إلى النور . و
الجنيد أخبر بهذا عن حاله . وهذا أمر جزئي ليس على عمومه بل صدقه يغنيه عن كثير من العلم . وأما عن جملة العلم : فكلام
أبي القاسم الثابت عنه في ضرورة الصادق إلى العلم ، وأنه لا يفلح من لم يكن له علم ، وأن طريق القوم مقيدة بالعلم ، وأنه لا يحل لأحد أن يتكلم في الطريق إلا بالعلم ، فمشهور معروف قد ذكرنا فيما مضى طرفا منه . كقوله : من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر . لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة .
وأيضا فإن علم العلماء الذين أشار إليهم : هو ما فهموه واستنبطوه من القرآن والسنة .
والمريد الصادق : هو الذي قرأ القرآن وحفظ السنة ، والله يرزقه ببركة صدقه ونور قلبه فهما في كتابه وسنة رسوله يغنيه عن تقليد فهم غيره .
وأما قوله - يعني
الجنيد - إذا أراد الله بالمريد خيرا : أوقعه على
الصوفية . ومنعه صحبة القراء .
فالقراء في لسانهم : هم أهل التنسك والتعبد ، سواء كانوا يقرءون القرآن أم لا ، فالقارئ عندهم : هو الكثير التعبد والتنسك ، الذي قد قصر همته على ظاهر العبادة ، دون أرواح المعارف . ودون حقائق الإيمان ، وروح المحبة ، وأعمال القلوب ، فهمتهم كلها إلى العبادة ، ولا خبر عندهم مما عند
أهل التصوف ، وأرباب القلوب وأهل المعارف . ولهذا قال من قال : طريقنا تفت لا تقسر .
فسير هؤلاء بالقلوب والأرواح ، وسير أولئك : بمجرد القوالب والأشباح ، وبين
[ ص: 349 ] أرواح هؤلاء وقلوبهم وأرواح هؤلاء وقلوبهم : نوع تناكر وتنافر ، ولا يقدر أحدهم على صحبة النوع الآخر إلا على نوع إغضاء ، وتحميل للطبيعة ما تأباه . وهو من جنس ما بينهم وبين ظاهرية الفقهاء من التنافر . ويسمونهم : أصحاب الرسوم . ويسمون أولئك : القراء . والطائفتان عندهم : أهل ظواهر ، لا أرباب حقائق . هؤلاء مع رسوم العلم . وهؤلاء مع رسوم العبادة .
ثم إنهم - في أنفسهم - فريقان : صوفية وفقراء . وهم متنازعون في ترجيح الصوفية على الفقراء ، أو بالعكس ، أو هما سواء . على ثلاثة أقوال .
فطائفة رجحت الصوفي . منهم كثير من
أهل العراق . وعلى هذا صاحب العوارف ، وجعلوا نهاية الفقير : بداية الصوفي .
وطائفة رجحت الفقير . وجعلوا الفقر لب التصوف وثمرته ، وهم كثير من
أهل خراسان .
وطائفة ثالثة قالوا : الفقر والتصوف شيء واحد . وهؤلاء هم
أهل الشام .
ولا يستقيم الحكم بين هؤلاء وهؤلاء حتى تتبين حقيقة الفقر والتصوف . وحينئذ يعلم : هل هما حقيقة واحدة ، أو حقيقتان ؟ ويعلم راجحهما من مرجوحهما .
وسترى ذلك مبينا إن شاء الله في منزلتي الفقر ، والتصوف إذا انتهينا إليهما . إن ساعد الله ومن بفضله وتوفيقه . فلا حول ولا قوة إلا بالله ، وبه المستعان . وعليه
[ ص: 350 ] التكلان . وما شاء كان . وما لم يشأ لم يكن .
والمقصود : أن المراتب عندهم ثلاثة : مرتبة التقوى وهي مرتبة التعبد والتنسك .
ومرتبة التصوف وهي مرتبة التفتي بكل خلق حسن . والخروج من كل خلق ذميم .
ومرتبة الفقر وهي مرتبة التجرد ، وقطع كل علاقة تحول بين القلب وبين الله تعالى .
فهذه
nindex.php?page=treesubj&link=29411مراتب طلاب الآخرة . ومن عداهم : فمع القاعدين المتخلفين .
فأشار
nindex.php?page=showalam&ids=14020أبو القاسم الجنيد إلى أن المريد لله بصدق ، إذا أراد الله به خيرا : أوقعه على طائفة الصوفية ، يهذبون أخلاقه . ويدلونه على تزكية نفسه ، وإزالة أخلاقها الذميمة . والاستبدال بالأخلاق الحميدة . ويعرفونه منازل الطريق ومفازاتها ، وقواطعها وآفاتها .
وأما القراء : فيدقونه بالعبادة من الصوم والصلاة دقا . ولا يذيقونه شيئا من حلاوة أعمال القلوب ، وتهذيب النفوس . إذ ليس ذلك طريقهم . ولهذا بينهم وبين أرباب التصوف نوع تنافر ، كما تقدم .
والبصير الصادق : يضرب في كل غنيمة بسهم ، ويعاشر كل طائفة على أحسن ما معها . ولا يتحيز إلى طائفة . وينأى عن الأخرى بالكلية : أن لا يكون معها شيء من الحق . فهذه طريقة الصادقين . ودعوى الجاهلية كامنة في النفوس .
ولا أعني بذلك أصغريهم ولكني أريد به الدوينا
nindex.php?page=hadith&LINKID=980525سمع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته قائلا يقول : يا للمهاجرين ، وآخر يقول : يا للأنصار ! فقال : ما بال دعوى الجاهلية ، وأنا بين أظهركم ؟ .
هذا ، وهما اسمان شريفان . سماهم الله بهما في كتابه ، فنهاهم عن ذلك . وأرشدهم إلى أن يتداعوا ب " المسلمين والمؤمنين وعباد الله " وهي الدعوى الجامعة . بخلاف المفرقة . ك " الفلانية والفلانية " فالله المستعان .
[ ص: 351 ] nindex.php?page=hadith&LINKID=980526وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر إنك امرؤ فيك جاهلية . فقال : على كبر السن مني يا رسول الله ؟ قال : نعم . فمن يأمن القراء بعدك يا شهر ؟
ولا يذوق العبد حلاوة الإيمان ، وطعم الصدق واليقين ، حتى تخرج الجاهلية كلها من قلبه . والله لو تحقق الناس في هذا الزمان ذلك من قلب رجل لرموه عن قوس واحدة . وقالوا : هذا مبتدع ، ومن دعاة البدع . فإلى الله المشتكى . وهو المسئول الصبر ، والثبات . فلا بد من لقائه
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=61وقد خاب من افترى .
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=227وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
[ ص: 345 ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْإِرَادَةِ
nindex.php?page=treesubj&link=29411وَمِنْ مَنَازِلِ nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ مَنْزِلَةُ الْإِرَادَةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=52وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=92&ayano=19وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى nindex.php?page=tafseer&surano=92&ayano=20إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى nindex.php?page=tafseer&surano=92&ayano=21وَلَسَوْفَ يَرْضَى . وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=29وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا .
وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى الْمُتَكَلِّمِينَ
nindex.php?page=treesubj&link=29723تَعَلُّقَ الْإِرَادَةِ بِاللَّهِ . وَكُونُ وَجْهِهِ تَعَالَى مُرَادًا .
قَالُوا : الْإِرَادَةُ لَا تَتَعَلَّقُ إِلَّا بِالْحَادِثِ . وَأَمَّا بِالْقَدِيمِ : فَلَا ؛ لِأَنَّ الْقَدِيمَ لَا يُرَادُ .
وَأَوَّلُوا الْإِرَادَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهِ بِإِرَادَةِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ . ثُمَّ إِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُمُ التَّقَرُّبُ إِلَيْهِ . فَأَوَّلُوا ذَلِكَ بِإِرَادَةِ طَاعَتِهِ الْمُوجِبَةِ لِجَزَائِهِ .
هَذَا حَاصِلُ مَا عِنْدَهُمْ . وَحِجَابُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ غَلِيظٌ كَثِيفٌ مِنْ أَغْلَظِ الْحُجْبِ وَأَكْثَفِهَا . وَلِهَذَا تَجِدُهُمْ أَهْلَ قَسْوَةٍ . وَلَا تُجِدُ عَلَيْهِمْ رُوحَ السُّلُوكِ ، وَلَا بَهْجَةَ الْمَحَبَّةِ .
nindex.php?page=treesubj&link=29723وَالطَّلَبُ وَالْإِرَادَةُ عِنْدَ أَرْبَابِ السُّلُوكِ : هِيَ التَّجَرُّدُ عَنِ الْإِرَادَةِ . فَلَا تَصِحُّ عِنْدَهُمُ الْإِرَادَةُ إِلَّا لِمَنْ لَا إِرَادَةَ لَهُ . وَلَا تَظُنُّ أَنَّ هَذَا تَنَاقُضٌ . بَلْ هُوَ مَحْضُ الْحَقِّ . وَاتِّفَاقُ كَلِمَةِ الْقَوْمِ عَلَيْهِ .
وَقَدْ تَنَوَّعَتْ عِبَارَاتُ الْقَوْمِ عَنْهَا . وَغَالِبُهُمْ يُخْبِرُ عَنْهَا بِأَنَّهَا تَرْكُ الْعَادَةِ .
وَمَعْنَى هَذَا : أَنَّ عَادَةَ النَّاسِ غَالِبًا التَّعْرِيجُ عَلَى أَوْطَانِ الْغَفْلَةِ ، وَإِجَابَةُ دَاعِي الشَّهْوَةِ ، وَالْإِخْلَادُ إِلَى أَرْضِ الطَّبِيعَةِ . وَالْمُرِيدُ مُنْسَلِخٌ عَنْ ذَلِكَ . فَصَارَ خُرُوجُهُ عَنْهُ : أَمَارَةً وَدَلَالَةً عَلَى صِحَّةِ الْإِرَادَةِ . فَسُمِّيَ انْسِلَاخُهُ وَتَرْكُهُ إِرَادَةً .
وَقِيلَ : نُهُوضُ الْقَلْبِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ .
[ ص: 346 ] وَيُقَالُ : لَوْعَةٌ تُهَوِّنُ كُلَّ رَوْعَةٍ .
قَالَ
الدَّقَّاقُ : الْإِرَادَةُ لَوْعَةٌ فِي الْفُؤَادِ ، لَذْعَةٌ فِي الْقَلْبِ ، غَرَامٌ فِي الضَّمِيرِ ، انْزِعَاجٌ فِي الْبَاطِنِ ، نِيرَانٌ تَأَجَّجُ فِي الْقُلُوبِ .
وَقِيلَ : مِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=29533صِفَاتِ الْمُرِيدِ : التَّحَبُّبُ إِلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ ، وَالْإِخْلَاصُ فِي نَصِيحَةِ الْأُمَّةِ ، وَالْأُنْسُ بِالْخَلْوَةِ ، وَالصَّبْرُ عَلَى مُقَاسَاةِ الْأَحْكَامِ ، وَالْإِيثَارُ لِأَمْرِهِ ، وَالْحَيَاءُ مِنْ نَظَرِهِ ، وَبَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي مَحْبُوبِهِ . وَالتَّعَرُّضُ لِكُلِّ سَبَبٍ يُوصِّلُ إِلَيْهِ . وَالْقَنَاعَةُ بِالْخُمُولِ . وَعَدَمُ قَرَارِ الْقَلْبِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى وَلِيِّهِ وَمَعْبُودِهِ .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=15665حَاتِمٌ الْأَصَمُّ : إِذَا رَأَيْتَ الْمُرِيدَ يُرِيدُ غَيْرَ مُرَادِهِ ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ أَظْهَرَ نَذَالَتَهُ .
وَقِيلَ : مِنْ حُكْمِ الْمُرِيدِ : أَنْ يَكُونَ نَوْمُهُ غَلَبَةً ، وَأَكْلُهُ فَاقَةً ، وَكَلَامُهُ ضَرُورَةً .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : نِهَايَةُ الْإِرَادَةِ : أَنْ تُشِيرَ إِلَى اللَّهِ . فَتَجِدَهُ مَعَ الْإِشَارَةِ . فَقِيلَ لَهُ : وَأَيْنَ تَسْتَوْعِبُهُ الْإِشَارَةُ ؟ فَقَالَ : أَنْ تَجِدَ اللَّهَ بِلَا إِشَارَةٍ . وَهَذَا كَلَامٌ مَتِينٌ .
فَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29411الْمَرَاتِبَ ثَلَاثَةٌ :
أَعْلَاهَا : أَنْ يَكُونَ وَاجِدًا لِلَّهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ . لَا يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ لَهُ عَلَى الْإِشَارَةِ مِنْهُ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ .
الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ لَهُ مَلَكَةٌ وَحَالٌ وَإِرَادَةٌ تَامَّةٌ ، بِحَيْثُ إِنَّهُ مَتَى أُشِيرَ لَهُ إِلَى اللَّهِ وَجَدَهُ عِنْدَ إِشَارَةِ الْمُشِيرِ .
الثَّالِثُ : أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ ، وَيَتَكَلَّفَ وِجْدَانُهُ عِنْدَ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ .
فَالْمَرْتَبَةُ الْأُولَى : لِلْمُقَرَّبِينَ السَّابِقَيْنَ . وَالْوُسْطَى : لِلْأَبْرَارِ الْمُقْتَصِدِينَ . وَالثَّالِثَةُ : لِلْغَافِلِينَ .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12079أَبُو عُثْمَانَ الْحِيرِيُّ : مَنْ لَمْ تَصِحَّ إِرَادَتُهُ ابْتِدَاءً ، فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُهُ مُرُورُ الْأَيَّامِ عَلَيْهِ إِلَّا إِدْبَارًا .
وَقَالَ : الْمُرِيدُ إِذَا سَمِعَ شَيْئًا مِنْ عُلُومِ الْقَوْمِ فَعَمِلَ بِهِ : صَارَ حِكْمَةً فِي قَلْبِهِ إِلَى آخَرِ عُمْرِهِ يَنْتَفِعُ بِهِ . وَإِذَا تَكَلَّمَ انْتَفَعَ بِهِ مَنْ سَمِعَهُ . وَمَنْ سَمِعَ شَيْئًا مِنْ عُلُومِهِمْ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ كَانَ حِكَايَةً يَحْفَظُهَا أَيْامًا ثُمَّ يَنْسَاهَا .
وَقَالَ
الْوَاسِطِيُّ : أَوَّلُ مَقَامِ الْمُرِيدِ : إِرَادَةُ الْحَقِّ بِإِسْقَاطِ إِرَادَتِهِ .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=17335يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ : أَشَدُّ شَيْءٍ عَلَى الْمُرِيدِ : مُعَاشَرَةُ الْأَضْدَادِ .
وَسُئِلَ
الْجُنَيْدُ : مَا لِلْمُرِيدِ حَظٌّ فِي مَجَازَاتِ الْحِكَايَاتِ ؟ فَقَالَ : الْحِكَايَاتُ جُنْدٌ مِنْ جُنْدِ اللَّهِ يُثَبِّتُ اللَّهُ بِهَا قُلُوبَ الْمُرِيدِينَ . ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=120وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ .
[ ص: 347 ] وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ
الْجُنَيْدِ كَلِمَتَانِ فِي الْإِرَادَةِ مُجْمَلَتَانِ . تَحْتَاجُ كُلٌّ مِنْهُمَا إِلَى تَفْسِيرٍ . الْكَلِمَةُ الْوَاحِدَةُ : قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14510أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ : سَمِعْتُ
nindex.php?page=showalam&ids=17020مُحَمَّدَ بْنَ مَخْلَدٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ
جَعْفَرًا يَقُولُ : سَمِعْتُ
الْجُنَيْدَ يَقُولُ : الْمُرِيدُ الصَّادِقُ غَنِيٌّ مِنَ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ أَيْضًا : سَمِعْتُ
الْجُنَيْدَ يَقُولُ : إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِالْمُرِيدِ خَيْرًا : أَوْقَعَهُ إِلَى
الصُّوفِيَّةِ . وَمَنَعَهُ صُحْبَةَ الْقُرَّاءِ .
قُلْتُ : إِذَا صَدَقَ الْمُرِيدُ ، وَصَحَّ عَقْدُ صِدْقِهِ مَعَ اللَّهِ : فَتَحَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ بِبَرَكَةِ الصِّدْقِ ، وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ اللَّهِ : مَا يُغْنِيهِ عَنِ الْعُلُومِ الَّتِي هِيَ نَتَائِجُ أَفْكَارِ النَّاسِ وَآرَائِهِمْ . وَعَنِ الْعُلُومِ الَّتِي هِيَ فَضْلَةٌ لَيْسَتْ مِنْ زَادِ الْقَبْرِ . وَعَنْ كَثِيرٍ مِنْ إِشَارَاتِ
الصُّوفِيَّةِ وَعُلُومِهِمْ ، الَّتِي أَفْنَوْا فِيهَا أَعْمَارَهُمْ : مِنْ مَعْرِفَةِ النَّفْسِ وَآفَاتِهَا وَعُيُوبِهَا ، وَمَعْرِفَةِ مُفْسِدَاتِ الْأَعْمَالِ ، وَأَحْكَامِ السُّلُوكِ . فَإِنَّ حَالَ صِدْقِهِ ، وَصِحَّةَ طَلَبِهِ : يُرِيهِ ذَلِكَ كُلَّهُ بِالْفِعْلِ .
وَمِثَالُ ذَلِكَ : رَجُلٌ قَاعِدٌ فِي الْبَلَدِ يَدْأَبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ فِي عِلْمِ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ وَعَقَبَاتِهَا وَأَوْدِيَتِهَا ، وَمَوَاضِعِ الْمَتَاهَاتِ فِيهَا ، وَالْمَوَارِدِ وَالْمَفَاوِزِ . وَآخَرُ : حَمَلَهُ الْوَجْدُ وَصِدْقُ الْإِرَادَةِ عَلَى أَنْ رَكِبَ الطَّرِيقَ وَسَارَ فِيهَا . فَصِدْقُهُ يُغْنِيهِ عَنْ عِلْمِ ذَلِكَ الْقَاعِدِ ، وَيُرِيهِ إِيَّاهَا فِي سُلُوكِهِ عَيَانًا .
[ ص: 348 ] وَأَمَّا أَنْ يُغْنِيَهُ صِدْقُ إِرَادَتِهِ عَنْ عِلْمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ، وَأَحْكَامِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ، وَمَعْرِفَةِ الْعِبَادَاتِ وَشُرُوطِهَا وَوَاجِبَاتِهَا وَمُبْطِلَاتِهَا ، وَعَنْ عِلْمِ أَحْكَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ : فَقَدْ أَعَاذَ اللَّهُ مَنْ هُوَ دُونَ
الْجُنَيْدِ مِنْ ذَلِكَ ، فَضْلًا عَنْ سَيِّدِ الطَّائِفَةِ وَإِمَامِهَا ، وَإِنَّمَا يَقُولُ ذَلِكَ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ ، وَزَنَادِقَةُ
الصُّوفِيَّةِ وَمَلَاحِدَتُهُمْ ، الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ اتِّبَاعَ الرَّسُولِ شَرْطًا فِي الطَّرِيقِ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُرِيدَ الصَّادِقَ : يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ ، وَيُنَوِّرُهُ بِنُورٍ مِنْ عِنْدِهِ ، مُضَافٌ إِلَى مَا مَعَهُ مِنْ نُورِ الْعِلْمِ ، يَعْرِفُ بِهِ كَثِيرًا مِنْ أَمْرِ دِينِهِ . فَيَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ عِلْمِ النَّاسِ ، فَإِنَّ الْعِلْمَ نُورٌ . وَقَلَبَ الصَّادِقِ مُمْتَلِئٌ بِنُورِ الصِّدْقِ . وَمَعَهُ نُورُ الْإِيمَانِ . وَالنُّورُ يَهْدِي إِلَى النُّورِ . وَ
الْجُنَيْدُ أَخْبَرَ بِهَذَا عَنْ حَالِهِ . وَهَذَا أَمْرٌ جُزْئِيٌّ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ بَلْ صِدْقَهُ يُغْنِيهِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْعِلْمِ . وَأَمَّا عَنْ جُمْلَةِ الْعِلْمِ : فَكَلَامُ
أَبِي الْقَاسِمِ الثَّابِتُ عَنْهُ فِي ضَرُورَةِ الصَّادِقِ إِلَى الْعِلْمِ ، وَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ ، وَأَنَّ طَرِيقَ الْقَوْمِ مُقَيَّدَةٌ بِالْعِلْمِ ، وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي الطَّرِيقِ إِلَّا بِالْعِلْمِ ، فَمَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى طَرَفًا مِنْهُ . كَقَوْلِهِ : مَنْ لَمْ يَحْفَظِ الْقُرْآنَ وَيَكْتُبِ الْحَدِيثَ لَا يُقْتَدَى بِهِ فِي هَذَا الْأَمْرِ . لِأَنَّ عِلْمَنَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ عِلْمَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ أَشَارَ إِلَيْهِمْ : هُوَ مَا فَهِمُوهُ وَاسْتَنْبَطُوهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ .
وَالْمُرِيدُ الصَّادِقُ : هُوَ الَّذِي قَرَأَ الْقُرْآنَ وَحَفِظَ السُّنَّةَ ، وَاللَّهَ يَرْزُقُهُ بِبَرَكَةِ صِدْقِهِ وَنُورِ قَلْبِهِ فَهُمَا فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ يُغْنِيهِ عَنْ تَقْلِيدِ فَهْمِ غَيْرِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ - يَعْنِي
الْجُنَيْدَ - إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِالْمُرِيدِ خَيْرًا : أَوْقَعَهُ عَلَى
الصُّوفِيَّةِ . وَمَنَعَهُ صُحْبَةَ الْقُرَّاءِ .
فَالْقُرَّاءُ فِي لِسَانِهِمْ : هُمْ أَهْلُ التَّنَسُّكِ وَالتَّعَبُّدِ ، سَوَاءٌ كَانُوا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ أَمْ لَا ، فَالْقَارِئُ عِنْدَهُمْ : هُوَ الْكَثِيرُ التَّعَبُّدِ وَالتَّنَسُّكِ ، الَّذِي قَدْ قَصَرَ هِمَّتُهُ عَلَى ظَاهِرِ الْعِبَادَةِ ، دُونَ أَرْوَاحِ الْمَعَارِفِ . وَدُونَ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ ، وَرُوحِ الْمَحَبَّةِ ، وَأَعْمَالِ الْقُلُوبِ ، فَهِمَّتُهُمْ كُلُّهَا إِلَى الْعِبَادَةِ ، وَلَا خَبَرَ عِنْدَهُمْ مِمَّا عِنْدَ
أَهْلِ التَّصَوُّفِ ، وَأَرْبَابِ الْقُلُوبِ وَأَهْلِ الْمَعَارِفِ . وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ : طَرِيقُنَا تَفَتٍّ لَا تَقَسُّرٌ .
فَسَيْرُ هَؤُلَاءِ بِالْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ ، وَسَيْرُ أُولَئِكَ : بِمُجَرَّدِ الْقَوَالِبِ وَالْأَشْبَاحِ ، وَبَيْنَ
[ ص: 349 ] أَرْوَاحِ هَؤُلَاءِ وَقُلُوبِهِمْ وَأَرْوَاحِ هَؤُلَاءِ وَقُلُوبِهِمْ : نَوْعُ تَنَاكُرٍ وَتَنَافُرٍ ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدُهُمْ عَلَى صُحْبَةِ النَّوْعِ الْآخَرِ إِلَّا عَلَى نَوْعِ إِغْضَاءٍ ، وَتَحْمِيلٍ لِلطَّبِيعَةِ مَا تَأْبَاهُ . وَهُوَ مِنْ جِنْسِ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ظَاهِرِيَّةِ الْفُقَهَاءِ مِنَ التَّنَافُرِ . وَيُسَمُّونَهُمْ : أَصْحَابَ الرُّسُومِ . وَيُسَمُّونَ أُولَئِكَ : الْقُرَّاءَ . وَالطَّائِفَتَانِ عِنْدَهُمْ : أَهْلُ ظَوَاهِرٍ ، لَا أَرْبَابُ حَقَائِقَ . هَؤُلَاءِ مَعَ رُسُومِ الْعِلْمِ . وَهَؤُلَاءِ مَعَ رُسُومِ الْعِبَادَةِ .
ثُمَّ إِنَّهُمْ - فِي أَنْفُسِهِمْ - فَرِيقَانِ : صُوفِيَّةٌ وَفُقَرَاءُ . وَهُمْ مُتَنَازِعُونَ فِي تَرْجِيحِ الصُّوفِيَّةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ ، أَوْ بِالْعَكْسِ ، أَوْ هُمَا سَوَاءٌ . عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ .
فَطَائِفَةٌ رَجَّحَتِ الصُّوفِيَّ . مِنْهُمْ كَثِيرٌ مِنْ
أَهْلِ الْعِرَاقِ . وَعَلَى هَذَا صَاحِبُ الْعَوَارِفِ ، وَجَعَلُوا نِهَايَةَ الْفَقِيرِ : بِدَايَةَ الصُّوفِيِّ .
وَطَائِفَةٌ رَجَّحَتِ الْفَقِيرَ . وَجَعَلُوا الْفَقْرَ لُبَّ التَّصَوُّفِ وَثَمَرَتُهُ ، وَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ
أَهْلِ خُرَاسَانَ .
وَطَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ قَالُوا : الْفَقْرُ وَالتَّصَوُّفُ شَيْءٌ وَاحِدٌ . وَهَؤُلَاءِ هُمْ
أَهْلُ الشَّامِ .
وَلَا يَسْتَقِيمُ الْحُكْمُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ حَتَّى تَتَبَيَّنَ حَقِيقَةُ الْفَقْرِ وَالتَّصَوُّفِ . وَحِينَئِذٍ يُعْلَمُ : هَلْ هَمَا حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ ، أَوْ حَقِيقَتَانِ ؟ وَيُعْلَمُ رَاجِحُهُمَا مِنْ مَرْجُوحِهِمَا .
وَسَتَرَى ذَلِكَ مُبَيَّنًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَنْزِلَتَيِ الْفَقْرِ ، وَالتَّصَوُّفِ إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِمَا . إِنْ سَاعَدَ اللَّهُ وَمَنَّ بِفَضْلِهِ وَتَوْفِيقِهِ . فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ، وَبِهِ الْمُسْتَعَانُ . وَعَلَيْهِ
[ ص: 350 ] التُّكْلَانُ . وَمَا شَاءَ كَانَ . وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ .
وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ الْمَرَاتِبَ عِنْدَهُمْ ثَلَاثَةٌ : مَرْتَبَةُ التَّقْوَى وَهِيَ مَرْتَبَةُ التَّعَبُّدِ وَالتَّنَسُّكِ .
وَمُرَتَّبَةُ التَّصَوُّفِ وَهِيَ مَرْتَبَةُ التَّفَتِّي بِكُلِّ خُلُقٍ حَسَنٍ . وَالْخُرُوجِ مِنْ كُلِّ خُلُقٍ ذَمِيمٍ .
وَمَرْتَبَةُ الْفَقْرِ وَهِيَ مَرْتَبَةُ التَّجَرُّدِ ، وَقَطْعُ كُلُّ عَلَاقَةٍ تَحُولُ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى .
فَهَذِهِ
nindex.php?page=treesubj&link=29411مَرَاتِبُ طُلَّابِ الْآخِرَةِ . وَمَنْ عَدَاهُمْ : فَمَعَ الْقَاعِدِينَ الْمُتَخَلِّفِينَ .
فَأَشَارَ
nindex.php?page=showalam&ids=14020أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْدُ إِلَى أَنَّ الْمُرِيدَ لِلَّهِ بِصِدْقٍ ، إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا : أَوْقَعَهُ عَلَى طَائِفَةِ الصُّوفِيَّةِ ، يُهَذِّبُونَ أَخْلَاقَهُ . وَيَدُلُّونَهُ عَلَى تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ ، وَإِزَالَةِ أَخْلَاقِهَا الذَّمِيمَةِ . وَالِاسْتِبْدَالِ بِالْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ . وَيُعِرِّفُونَهُ مَنَازِلَ الطَّرِيقِ وَمَفَازَاتِهَا ، وَقَوَاطِعَهَا وَآفَاتِهَا .
وَأَمَّا الْقُرَّاءُ : فَيَدُقُّونَهُ بِالْعِبَادَةِ مِنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ دَقًّا . وَلَا يُذِيقُونَهُ شَيْئًا مِنْ حَلَاوَةِ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ ، وَتَهْذِيبِ النُّفُوسِ . إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ طَرِيقُهُمْ . وَلِهَذَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَرْبَابِ التَّصَوُّفِ نَوْعُ تَنَافَرٍ ، كَمَا تَقَدَّمَ .
وَالْبَصِيرُ الصَّادِقُ : يَضْرِبُ فِي كُلِّ غَنِيمَةٍ بِسَهْمٍ ، وَيُعَاشِرُ كُلَّ طَائِفَةٍ عَلَى أَحْسَنِ مَا مَعَهَا . وَلَا يَتَحَيَّزُ إِلَى طَائِفَةٍ . وَيَنْأَى عَنِ الْأُخْرَى بِالْكُلِّيَّةِ : أَنْ لَا يَكُونَ مَعَهَا شَيْءٌ مِنَ الْحَقِّ . فَهَذِهِ طَرِيقَةُ الصَّادِقِينَ . وَدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ كَامِنَةٌ فِي النُّفُوسِ .
وَلَا أَعْنِي بِذَلِكَ أَصْغَرَيْهِمْ وَلَكِنِّي أُرِيدُ بِهِ الدُّوَيْنَا
nindex.php?page=hadith&LINKID=980525سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ قَائِلًا يَقُولُ : يَا لَلْمُهَاجِرِينَ ، وَآخَرٌ يَقُولُ : يَا لَلْأَنْصَارِ ! فَقَالَ : مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ ، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ؟ .
هَذَا ، وَهُمَا اسْمَانِ شَرِيفَانِ . سَمَّاهُمُ اللَّهُ بِهِمَا فِي كِتَابِهِ ، فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ . وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى أَنْ يَتَدَاعُوا بِ " الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَعِبَادِ اللَّهِ " وَهِيَ الدَّعْوَى الْجَامِعَةُ . بِخِلَافِ الْمُفَرَّقَةِ . كَ " الْفُلَانِيَّةِ وَالْفُلَانِيَّةِ " فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
[ ص: 351 ] nindex.php?page=hadith&LINKID=980526وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ . فَقَالَ : عَلَى كِبَرِ السِّنِّ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَمَنْ يَأْمَنُ الْقُرَّاءَ بَعْدَكَ يَا شَهْرُ ؟
وَلَا يَذُوقُ الْعَبْدُ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ ، وَطَعْمَ الصِّدْقِ وَالْيَقِينِ ، حَتَّى تَخْرُجَ الْجَاهِلِيَّةُ كُلُّهَا مِنْ قَلْبِهِ . وَاللَّهِ لَوْ تَحَقَّقَ النَّاسُ فِي هَذَا الزَّمَانِ ذَلِكَ مِنْ قَلْبِ رَجُلٍ لَرَمَوْهُ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ . وَقَالُوا : هَذَا مُبْتَدِعٌ ، وَمِنْ دُعَاةِ الْبِدَعِ . فَإِلَى اللَّهِ الْمُشْتَكَى . وَهُوَ الْمَسْئُولُ الصَّبْرَ ، وَالثَّبَاتَ . فَلَا بُدَّ مِنْ لِقَائِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=61وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى .
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=227وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ .