فصل في
nindex.php?page=treesubj&link=33704غزوة القادسية .
ثم سار
سعد فنزل
القادسية ، وبث سراياه وأقام بها شهرا لم ير أحدا من
الفرس ، فكتب إلى
عمر بذلك ، والسرايا تأتي بالميرة من كل مكان ، فعجت رعايا
الفرس من أطراف بلادهم إلى
nindex.php?page=showalam&ids=16848يزدجرد من الذي يلقون من المسلمين من النهب والسباء . وقالوا : إن لم تنجدونا وإلا أعطينا ما بأيدينا وسلمنا إليهم الحصون . واجتمع رأي
الفرس على إرسال
رستم إليهم ، فبعث إليه
nindex.php?page=showalam&ids=16848يزدجرد ، فأمره على الجيش ، فاستعفى
رستم من ذلك وقال : إن هذا ليس برأي في الحرب ، إن إرسال الجيوش بعد الجيوش أشد على العرب من أن يكسروا جيشا كثيفا مرة واحدة . فأبى الملك إلا ذلك ، فتجهز
رستم للخروج ، ثم بعث
سعد [ ص: 619 ] كاشفا إلى
الحيرة ، وإلى صلوبا ، فأتاه الخبر بأن الملك قد أمر على الحرب
رستم بن الفرخزاذ الأرمني ، وأمده بالعساكر ، فكتب
سعد إلى
عمر بذلك ، فكتب إليه
عمر : لا يكربنك ما يأتيك عنهم ، ولا ما يأتونك به ، واستعن بالله وتوكل عليه ، وابعث إليه رجالا من أهل النظر والرأي والجلد يدعونه ، فإن الله جاعل دعاءهم توهينا لهم وفلجا عليهم ، واكتب إلي في كل يوم .
ولما اقترب
رستم بجيوشه وعسكر
بساباط كتب
سعد إلى
عمر يقول : إن
رستم قد عسكر
بساباط ، وجر الخيول والفيول وزحف علينا بها ، وليس شيء أهم عندي ولا أكثر ذكرا مني لما أحببت أن أكون عليه من الاستعانة والتوكل .
وعبأ
رستم ، فجعل على المقدمة - وهي أربعون ألفا -
الجالنوس ، وعلى الميمنة
الهرمزان ، وعلى الميسرة
مهران بن بهرام ، وذلك ستون ألفا وعلى الساقة
البندران في عشرين ألفا ، فالجيش كله ثمانون ألفا ، فيما ذكره
سيف وغيره . وفي رواية : كان
رستم في مائة ألف وعشرين ألفا ، يتبعها ثمانون ألفا وكان معه ثلاثة وثلاثون فيلا ، منها فيل أبيض كان لسابور ، فهو أعظمها وأقدمها ، وكانت الفيلة تألفه .
ثم بعث
سعد جماعة من السادات منهم
، النعمان بن مقرن ، وفرات بن [ ص: 620 ] حيان ،
وحنظلة بن الربيع التميمي ،
وعطارد بن حاجب ،
nindex.php?page=showalam&ids=185والأشعث بن قيس ،
nindex.php?page=showalam&ids=19والمغيرة بن شعبة ،
وعمرو بن معديكرب ، يدعون
رستم إلى الله عز وجل ، فقال لهم
رستم : ما أقدمكم ؟ فقالوا : جئنا لموعود الله إيانا ; أخذ بلادكم وسبي نسائكم وأبنائكم وأخذ أموالكم ، فنحن على يقين من ذلك . وقد رأى
رستم في منامه كأن ملكا نزل من السماء ، فختم على سلاح
الفرس كله ، ودفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
عمر .
وذكر
سيف بن عمر ، أن
رستم طاول
سعدا في اللقاء حتى كان بين خروجه من
المدائن وملتقاه
سعدا بالقادسية أربعة أشهر ، كل ذلك لعله يضجر
سعدا ومن معه ليرجعوا ، ولولا أن الملك استعجله ما التقاه ; لما يعلم من غلبة المسلمين لهم ونصرهم عليهم ، لما رأى في منامه ، ولما يتوسمه ، ولما سمع منهم ، ولما عنده من علم النجوم الذي يعتقد صحته في نفسه ; لما له من الممارسة لهذا الفن . ولما دنا جيش
رستم من
سعد ، أحب
سعد أن يطلع على أخبارهم على الجلية ، فبعث سرية لتأتيه برجل من
الفرس ، وكان في السرية
طليحة الأسدي الذي كان ادعى النبوة ثم تاب ، وتقدم
الحارث مع أصحابه حتى رجعوا ، فلما بعث
سعد السرية اخترق
طليحة الجيوش والصفوف ، وتخطى الألوف ، وقتل جماعة من الأبطال حتى أسر أحدهم ، وجاء به لا يملك من نفسه شيئا ، فسأله
سعد عن القوم ، فجعل يصف شجاعة
طليحة ، فقال : دعنا من هذا وأخبرنا عن
رستم . فقال : هو في مائة ألف وعشرين ألفا ، ويتبعها مثلها . وأسلم
[ ص: 621 ] الرجل من فوره . رحمه الله .
قال
سيف عن شيوخه : ولما تواجه الجيشان بعث
رستم إلى
سعد أن يبعث إليه برجل عاقل عالم بما أسأله عنه . فبعث إليه
المغيرة بن شعبة ، رضي الله عنه ، فلما قدم عليه جعل
رستم يقول له : إنكم جيراننا وكنا نحسن إليكم ونكف الأذى عنكم ، فارجعوا إلى بلادكم ولا نمنع تجاركم من الدخول إلى بلادنا . فقال له
المغيرة : إنا ليس طلبنا الدنيا ، وإنما همنا وطلبنا الآخرة ، وقد بعث الله إلينا رسولا قال له : إني قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني ، فأنا منتقم بهم منهم ، وأجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به ، وهو دين الحق لا يرغب عنه أحد إلا ذل ، ولا يعتصم به إلا عز . فقال له
رستم : فما هو ؟ فقال : أما عموده الذي لا يصلح شيء منه إلا به ، فشهادة أن لا إله إلا الله وأن
محمدا رسول الله ، والإقرار بما جاء من عند الله . فقال : ما أحسن هذا ! وأي شيء أيضا ؟ قال : وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله . قال : وحسن أيضا ، وأي شيء أيضا ؟ قال : والناس بنو
آدم ، فهم إخوة لأب وأم . قال : وحسن أيضا ، ثم قال
رستم : أرأيت إن دخلنا في دينكم ، أترجعون عن بلادنا ؟ قال : إي والله ، ثم لا نقرب بلادكم إلا في تجارة أو حاجة . قال : وحسن أيضا . قال : ولما خرج
المغيرة من عنده ذاكر
رستم رؤساء قومه في الإسلام ، فأنفوا من ذلك وأبوا أن يدخلوا فيه ، قبحهم الله وأخزاهم ، وقد فعل .
قالوا : ثم بعث إليه
سعد رسولا آخر بطلبه ، وهو
ربعي بن عامر ، فدخل عليه
[ ص: 622 ] وقد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة والزرابي الحرير ، وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة ، والزينة العظيمة ، وعليه تاجه ، وغير ذلك من الأمتعة الثمينة ، وقد جلس على سرير من ذهب ، ودخل
ربعي بثياب صفيقة وسيف وترس وفرس قصيرة ، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط ، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد ، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضة على رأسه ، فقالوا له : ضع سلاحك . فقال : إني لم آتكم ، وإنما جئتكم حين دعوتموني ، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت . فقال
رستم : ائذنوا له . فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق عامتها ، فقالوا له : ما جاء بكم ؟ فقال : الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه ، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه ، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله . قالوا : وما موعود الله ؟ قال : الجنة لمن مات على قتال من أبى ، والظفر لمن بقي . فقال
رستم : قد سمعت مقالتكم ، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا ؟ قال : نعم ، كم أحب إليكم ؟ أيوما أو يومين ؟ قال : لا ، بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا . فقال :
nindex.php?page=treesubj&link=7981ما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث ، فانظر في أمرك وأمرهم ، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل . فقال : أسيدهم أنت ؟ قال : لا ، ولكن المسلمون كالجسد الواحد يجير أدناهم على أعلاهم . فاجتمع
رستم برؤساء قومه ، فقال : هل رأيتم قط أعز وأرجح من كلام هذا الرجل ؟ فقالوا : معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك لهذا الكلب ! أما ترى إلى ثيابه ؟ ! فقال : ويلكم لا تنظروا إلى
[ ص: 623 ] الثياب ، وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة ، إن
nindex.php?page=treesubj&link=31575العرب يستخفون بالثياب والمأكل ، ويصونون الأحساب .
ثم بعثوا يطلبون في اليوم الثاني رجلا ، فبعث إليهم
حذيفة بن محصن ، فتكلم نحو ما قال
ربعي . وفي اليوم الثالث
المغيرة بن شعبة ، فتكلم بكلام حسن طويل ، قال فيه
رستم للمغيرة : إنما مثلكم في دخولكم أرضنا كمثل الذباب رأى العسل فقال : من يوصلني إليه وله درهمان ؟ فلما سقط عليه غرق فيه ، فجعل يطلب الخلاص فلا يجده ، وجعل يقول : من يخلصني وله أربعة دراهم ؟ ومثلكم كمثل ثعلب ضعيف دخل جحرا في كرم ، فلما رآه صاحب الكرم ضعيفا رحمه فتركه ، فلما سمن أفسد شيئا كثيرا فجاء بجيشه ، واستعان عليه بغلمانه ، فذهب ليخرج فلم يستطع لسمنه ، فضربه حتى قتله ، فهكذا تخرجون من بلادنا . ثم استشاط غضبا ، وأقسم بالشمس لأقتلنكم غدا . فقال
المغيرة : ستعلم . ثم قال
رستم للمغيرة : قد أمرت لكم بكسوة ، ولأميركم بألف دينار وكسوة ومركوب وتنصرفون عنا . فقال
المغيرة : أبعد أن أوهنا ملككم وضعفنا عزكم ؟ ! ولنا مدة نحو بلادكم ، ونأخذ الجزية منكم عن يد وأنتم صاغرون ، وستصيرون لنا عبيدا على رغمكم . فلما قال ذلك استشاط غضبا .
وقال
ابن جرير حدثني
محمد بن عبد الله بن صفوان الثقفي ، ثنا
أمية بن خالد ، ثنا
أبو عوانة ، عن
حصين بن عبد الرحمن ، قال : قال
أبو وائل : جاء
سعد حتى نزل
القادسية ومعه الناس . قال : لا أدري لعلنا لا نزيد على سبعة
[ ص: 624 ] آلاف أو ثمانية آلاف ، بين ذلك ، والمشركون ثلاثون ألفا ونحو ذلك ، فقالوا : لا يد لكم ولا قوة ولا سلاح ، ما جاء بكم ؟ ارجعوا . قال : قلنا : ما نحن براجعين . فكانوا يضحكون من نبلنا ، ويقولون : دوك دوك . وشبهونا بالمغازل . فلما أبينا عليهم أن نرجع . قالوا : ابعثوا إلينا رجلا منكم عاقلا يبين لنا ما جاء بكم . فقال
المغيرة بن شعبة : أنا . فعبر إليهم فقعد مع
رستم على السرير فنخروا وصاحوا ، فقال : إن هذا لم يزدني رفعة ولم ينقص صاحبكم . فقال
رستم : صدق ، ما جاء بكم ؟ فقال : إنا كنا قوما في شر وضلالة ، فبعث الله فينا نبيا ، فهدانا الله به ورزقنا على يديه ، فكان فيما رزقنا حبة تنبت بهذا البلد ، فلما أكلناها وأطعمناها أهلينا ، قالوا : لا صبر لنا عنها ، أنزلونا هذه الأرض حتى نأكل من هذه الحبة . فقال
رستم : إذن نقتلكم . قال : إن قتلتمونا دخلنا الجنة ، وإن قتلناكم دخلتم النار ، أو أديتم الجزية . قال : فلما قال : أو أديتم الجزية . نخروا وصاحوا وقالوا : لا صلح بيننا وبينكم . فقال
المغيرة : تعبرون إلينا أو نعبر إليكم ؟ فقال
رستم : بل نعبر إليكم . فاستأخر المسلمون حتى عبروا ، فحملوا عليهم فهزموهم .
وذكر
سيف أن
سعدا كان به عرق النسا يومئذ ، وأنه خطب الناس وتلى قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=105ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون [ الأنبياء : 105 ] . وصلى بالناس الظهر ، ثم كبر أربعا ،
[ ص: 625 ] وحملوا بعد أن أمرهم أن يقولوا : لا حول ولا قوة إلا بالله . ثم ذكر الحديث في طردهم إياهم ، وقتلهم لهم ، وقعودهم لهم كل مرصد ، وحصرهم لبعضهم في بعض الأماكن حتى أكلوا الكلاب والسنانير ، وما رد شاردهم حتى وصل إلى
نهاوند ، ولجأ أكثرهم إلى
المدائن ولحقهم المسلمون إلى أبوابها ، وكان
سعد قد بعث طائفة من أصحابه إلى
كسرى يدعونه إلى الله قبل الوقعة ، فاستأذنوا على
كسرى ، فأذن لهم ، وخرج أهل البلد ينظرون إلى أشكالهم ، وأرديتهم على عواتقهم ، وسياطهم بأيديهم ، والنعال في أرجلهم ، وخيولهم الضعيفة ، وخبطها الأرض بأرجلها ، وجعلوا يتعجبون منهم غاية العجب ، كيف مثل هؤلاء يقهرون جيوشهم مع كثرة عددها وعددها . ولما استأذنوا على الملك
nindex.php?page=showalam&ids=16848يزدجرد أذن لهم وأجلسهم بين يديه ، وكان متكبرا قليل الأدب ، ثم جعل يسألهم عن ملابسهم هذه ما اسمها ; عن الأردية ، والنعال ، والسياط ، ثم كلما قالوا له شيئا من ذلك تفاءل ، فرد الله فأله على رأسه . ثم قال لهم : ما الذي أقدمكم هذه البلاد ؟ أظننتم أنا لما تشاغلنا بأنفسنا اجترأتم علينا ؟ ! فقال له
النعمان بن مقرن : إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولا يدلنا على الخير ويأمرنا به ، ويعرفنا الشر وينهانا عنه ، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة ، فلم يدع إلى ذلك قبيلة إلا صاروا فرقتين ; فرقة تقاربه وفرقة تباعده ، ولا يدخل معه في دينه إلا الخواص ، فمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث ، ثم أمر أن ينبذ إلى من خالفه من العرب ويبدأ بهم ، ففعل ،
[ ص: 626 ] فدخلوا معه جميعا على وجهين ; مكروه عليه فاغتبط ، وطائع أتاه فازداد ، فعرفنا جميعا فضل ما جاء به على الذي كنا عليه من العداوة والضيق ، وأمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف ، فنحن ندعوكم إلى ديننا ، وهو دين حسن الحسن وقبح القبيح كله ، فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون من آخر شر منه ; الجزاء ، فإن أبيتم فالمناجزة ، وإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله ، وأقمناكم عليه على أن تحكموا بأحكامه ونرجع عنكم ، وشأنكم وبلادكم ، وإن اتقيتمونا بالجزي قبلنا ومنعناكم ، وإلا قاتلناكم . قال : فتكلم
nindex.php?page=showalam&ids=16848يزدجرد فقال : إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عددا ولا أسوأ ذات بين منكم ، قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي فيكفوناكم ، لا تغزوكم
فارس ولا تطمعون أن تقوموا لهم ، فإن كان عددكم كثر فلا يغرنكم منا ، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتا إلى خصبكم ، وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم ، وملكنا عليكم ملكا يرفق بكم . فأسكت القوم ، فقام
المغيرة بن زرارة فقال : أيها الملك ، إن هؤلاء رءوس العرب ووجوههم ، وهم أشراف يستحيون من الأشراف ، وإنما يكرم الأشراف الأشراف ، ويعظم حقوق الأشراف الأشراف ، وليس كل ما أرسلوا له جمعوه لك ، ولا كل ما تكلمت به
[ ص: 627 ] أجابوك عنه ، وقد أحسنوا ، ولا يحسن بمثلهم إلا ذلك ، فجاوبني فأكون أنا الذي أبلغك ويشهدون على ذلك ; إنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالما ، فأما ما ذكرت من سوء الحال ، فما كان أسوأ حالا منا ، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع ; كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات ونرى ذلك طعامنا ، وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض ، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم ، ديننا أن يقتل بعضنا بعضا ، وأن يغير بعضنا على بعض ، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهى حية ; كراهية أن تأكل من طعامه ، فكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك ، فبعث الله إلينا رجلا معروفا ; نعرف نسبه ، ونعرف وجهه ومولده ، فأرضه خير أرضنا ، وحسبه خير أحسابنا ، وبيته خير بيوتنا ، وقبيلته خير قبائلنا ، وهو نفسه كان خيرنا في الحال التي كان فيها أصدقنا وأحلمنا ، فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد أول من ترب كان له وكان الخليفة من بعده ، فقال وقلنا ، وصدق وكذبنا ، وزاد ونقصنا فلم يقل شيئا إلا كان ، فقذف الله في قلوبنا التصديق له واتباعه ، فصار فيما بيننا وبين رب العالمين ، فما قال لنا فهو قول الله ، وما أمرنا فهو أمر الله ، فقال لنا : إن ربكم يقول : أنا الله وحدي لا شريك لي ، كنت إذ لم يكن شيء ، وكل شيء هالك إلا وجهي ، وأنا خلقت كل شيء وإلي يصير كل شيء ، وإن رحمتي أدركتكم ، فبعثت إليكم هذا الرجل لأدلكم على السبيل التي أنجيكم بها بعد الموت من عذابي ، ولأحلكم داري دار السلام . فنشهد عليه أنه جاء بالحق من عند الحق . وقال : من تابعكم
[ ص: 628 ] على هذا فله ما لكم وعليه ما عليكم ، ومن أبى فاعرضوا عليه الجزية ، ثم امنعوه مما تمنعون منه أنفسكم ، ومن أبى فقاتلوه ، فأنا الحكم بينكم ، فمن قتل منكم أدخلته جنتي ، ومن بقي منكم أعقبته النصر على من ناوأه . فاختر إن شئت الجزية ، وأنت صاغر ، وإن شئت فالسيف ، أو تسلم فتنجي نفسك . فقال
nindex.php?page=showalam&ids=16848يزدجرد : استقبلتني بمثل هذا ؟ ! فقال : ما استقبلت إلا من كلمني ، ولو كلمني غيرك لم أستقبلك به . فقال : لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم ، لا شيء لكم عندي . وقال : ائتوني بوقر من تراب ، فاحملوه على أشرف هؤلاء ، ثم سوقوه حتى يخرج من أبيات
المدائن ، ارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أني مرسل إليه رستم حتى يدفنه وجنده في خندق
القادسية وينكل به وبكم من بعد ، ثم أورده بلادكم حتى أشغلكم في أنفسكم بأشد مما نالكم من سابور . ثم قال : من أشرفكم ؟ فسكت القوم ، فقال
عاصم بن عمرو ، وافتات ليأخذ التراب : أنا أشرفهم ، أنا سيد هؤلاء ، فحملنيه . فقال : أكذاك ؟ قالوا : نعم . فحمله على عنقه فخرج به من الإيوان والدار حتى أتى راحلته ، فحمله عليها ثم انجذب في السير فأتوا به
سعدا ، وسبقهم عاصم ، فمر بباب قديس فطواه فقال : بشروا الأمير بالظفر ، ظفرنا إن شاء الله تعالى . ثم مضى حتى جعل التراب في الحجر ، ثم رجع فدخل على
سعد فأخبره الخبر . فقال : أبشروا فقد والله أعطانا الله أقاليد ملكهم . وتفاءلوا بذلك أخذ بلادهم ، ثم لم
[ ص: 629 ] يزل أمر الصحابة يزداد في كل يوم علوا وشرفا ورفعة ، وينحط أمر
الفرس سفلا وذلا ووهنا .
ولما رجع
رستم إلى الملك يسأله عن حال من رأى من المسلمين ، فذكر له عقلهم وفصاحتهم وحدة جوابهم ، وأنهم يرومون أمرا يوشك أن يدركوه ، وذكر له ما أمر به أشرفهم من حمل التراب ، وأنه استحمق أشرفهم في حمله التراب على رأسه ، ولو شاء اتقى بغيره وأنا لا أشعر . فقال له
رستم : إنه ليس بأحمق وليس هو بأشرفهم ، إنما أراد أن يفتدي قومه بنفسه ، ولكن والله ذهبوا بمفاتيح أرضنا . وكان
رستم منجما ، ثم أرسل رجلا وراءهم ، وقال : إن أدرك التراب فرده تداركنا أمرنا ، وإن ذهبوا به إلى أميرهم غلبونا على أرضنا . قال : فساق وراءهم فلم يدركهم ، بل سبقوه إلى
سعد بالتراب . وساء ذلك
فارس وغضبوا من ذلك أشد الغضب ، واستهجنوا رأي الملك .
فَصْلٌ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=33704غَزْوَةِ الْقَادِسِيَّةِ .
ثُمَّ سَارَ
سَعْدٌ فَنَزَلَ
الْقَادِسِيَّةَ ، وَبَثَّ سَرَايَاهُ وَأَقَامَ بِهَا شَهْرًا لَمْ يَرَ أَحَدًا مِنَ
الْفُرْسِ ، فَكَتَبَ إِلَى
عُمَرَ بِذَلِكَ ، وَالسَّرَايَا تَأْتِي بِالْمِيرَةِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ، فَعَجَّتْ رَعَايَا
الْفُرْسِ مِنْ أَطْرَافِ بِلَادِهِمْ إِلَى
nindex.php?page=showalam&ids=16848يَزْدَجِرْدَ مِنَ الَّذِي يَلْقَوْنَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ النَّهْبِ وَالسِّبَاءِ . وَقَالُوا : إِنْ لَمْ تُنْجِدُونَا وَإِلَّا أَعْطَيْنَا مَا بِأَيْدِينَا وَسَلَّمْنَا إِلَيْهِمُ الْحُصُونَ . وَاجْتَمَعَ رَأْيُ
الْفُرْسِ عَلَى إِرْسَالِ
رُسْتُمَ إِلَيْهِمْ ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ
nindex.php?page=showalam&ids=16848يَزْدَجِرْدُ ، فَأَمَّرَهُ عَلَى الْجَيْشِ ، فَاسْتَعْفَى
رُسْتُمُ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ : إِنَّ هَذَا لَيْسَ بِرَأْيٍ فِي الْحَرْبِ ، إِنَّ إِرْسَالَ الْجُيُوشِ بَعْدَ الْجُيُوشِ أَشَدُّ عَلَى الْعَرَبِ مِنْ أَنْ يَكْسِرُوا جَيْشًا كَثِيفًا مَرَّةً وَاحِدَةً . فَأَبَى الْمَلِكُ إِلَّا ذَلِكَ ، فَتَجَهَّزَ
رُسْتُمُ لِلْخُرُوجِ ، ثُمَّ بَعَثَ
سَعْدٌ [ ص: 619 ] كَاشِفًا إِلَى
الْحِيرَةِ ، وَإِلَى صَلُوبَا ، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ بِأَنَّ الْمَلِكَ قَدْ أَمَّرَ عَلَى الْحَرْبِ
رُسْتُمَ بْنَ الْفَرُّخْزَاذِ الْأَرْمَنِيَّ ، وَأَمَدَهُ بِالْعَسَاكِرِ ، فَكَتَبَ
سَعْدٌ إِلَى
عُمَرَ بِذَلِكَ ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ
عُمَرُ : لَا يَكْرَبَنَّكَ مَا يَأْتِيكَ عَنْهُمْ ، وَلَا مَا يَأْتُونَكَ بِهِ ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ، وَابْعَثْ إِلَيْهِ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالرَّأْيِ وَالْجَلَدِ يَدْعُونَهُ ، فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ دُعَاءَهُمْ تَوْهِينًا لَهُمْ وَفَلْجًا عَلَيْهِمْ ، وَاكْتُبْ إِلَيَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ .
وَلَمَّا اقْتَرَبَ
رُسْتُمُ بِجُيُوشِهِ وَعَسْكَرَ
بِسَابَاطَ كَتَبَ
سَعْدٌ إِلَى
عُمَرَ يَقُولُ : إِنَّ
رُسْتُمَ قَدْ عَسْكَرَ
بِسَابَاطَ ، وَجَرَّ الْخُيُولَ وَالْفُيُولَ وَزَحَفَ عَلَيْنَا بِهَا ، وَلَيْسَ شَيْءٌ أَهَمَّ عِنْدِي وَلَا أَكْثَرَ ذِكْرًا مِنِّي لِمَا أَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ عَلَيْهِ مِنَ الِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوَكُّلِ .
وَعَبَّأَ
رُسْتُمُ ، فَجَعَلَ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ - وَهِيَ أَرْبَعُونَ أَلْفًا -
الْجَالِنُوسَ ، وَعَلَى الْمَيْمَنَةِ
الْهُرْمُزَانَ ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ
مِهْرَانَ بْنَ بَهْرَامَ ، وَذَلِكَ سِتُّونَ أَلْفًا وَعَلَى السَّاقَةِ
الْبَنْدَرَانَ فِي عِشْرِينَ أَلْفًا ، فَالْجَيْشُ كُلُّهُ ثَمَانُونَ أَلْفًا ، فِيمَا ذَكَرَهُ
سَيْفٌ وَغَيْرُهُ . وَفِي رِوَايَةٍ : كَانَ
رُسْتُمُ فِي مِائَةِ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا ، يَتْبَعُهَا ثَمَانُونَ أَلْفًا وَكَانَ مَعَهُ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ فِيلًا ، مِنْهَا فِيلٌ أَبْيَضُ كَانَ لِسَابُورَ ، فَهُوَ أَعْظَمُهَا وَأَقْدَمُهَا ، وَكَانَتِ الْفِيَلَةُ تَأْلَفُهُ .
ثُمَّ بَعَثَ
سَعْدٌ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّادَاتِ مِنْهُمْ
، النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ ، وَفُرَاتُ بْنُ [ ص: 620 ] حَيَّانَ ،
وَحَنْظَلَةُ بْنُ الرَّبِيعَ التَّمِيمِيُّ ،
وَعُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ ،
nindex.php?page=showalam&ids=185وَالْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ ،
nindex.php?page=showalam&ids=19وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ ،
وَعَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ ، يَدْعُونَ
رُسْتُمَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَقَالَ لَهُمْ
رُسْتُمُ : مَا أَقْدَمَكُمْ ؟ فَقَالُوا : جِئْنَا لِمَوْعُودِ اللَّهِ إِيَّانَا ; أَخْذِ بِلَادِكُمْ وَسَبْيِ نِسَائِكُمْ وَأَبْنَائِكُمْ وَأَخْذِ أَمْوَالِكُمْ ، فَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ ذَلِكَ . وَقَدْ رَأَى
رُسْتُمُ فِي مَنَامِهِ كَأَنَّ مَلَكًا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ ، فَخَتَمَ عَلَى سِلَاحِ
الْفُرْسِ كُلِّهِ ، وَدَفَعَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَدَفَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
عُمَرَ .
وَذَكَرَ
سَيْفُ بْنُ عُمَرَ ، أَنَّ
رُسْتُمَ طَاوَلَ
سَعْدًا فِي اللِّقَاءِ حَتَّى كَانَ بَيْنَ خُرُوجِهِ مِنَ
الْمَدَائِنِ وَمُلْتَقَاهُ
سَعْدًا بِالْقَادِسِيَّةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ، كُلُّ ذَلِكَ لَعَلَّهُ يَضْجَرُ
سَعْدًا وَمَنْ مَعَهُ لِيَرْجِعُوا ، وَلَوْلَا أَنَّ الْمَلِكَ اسْتَعْجَلَهُ مَا الْتَقَاهُ ; لِمَا يَعْلَمُ مِنْ غَلَبَةِ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ وَنَصْرِهِمْ عَلَيْهِمْ ، لِمَا رَأَى فِي مَنَامِهِ ، وَلِمَا يَتَوَسَّمُهُ ، وَلِمَا سَمِعَ مِنْهُمْ ، وَلِمَا عِنْدَهُ مِنْ عَلَمِ النُّجُومِ الَّذِي يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ فِي نَفْسِهِ ; لِمَا لَهُ مِنَ الْمُمَارَسَةِ لِهَذَا الْفَنِّ . وَلَمَّا دَنَا جَيْشُ
رُسْتُمَ مِنْ
سَعْدٍ ، أَحَبَّ
سَعْدٌ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى أَخْبَارِهِمْ عَلَى الْجَلِيَّةِ ، فَبَعَثَ سَرِيَّةً لِتَأْتِيَهُ بِرَجُلٍ مِنَ
الْفُرْسِ ، وَكَانَ فِي السَرِيَّةِ
طُلَيْحَةُ الْأَسَدِيُّ الَّذِي كَانَ ادَّعَى النُّبُوَّةَ ثُمَّ تَابَ ، وَتَقَدَّمَ
الْحَارِثُ مَعَ أَصْحَابِهِ حَتَّى رَجَعُوا ، فَلَمَّا بَعَثَ
سَعْدٌ السَّرِيَّةَ اخْتَرَقَ
طُلَيْحَةُ الْجُيُوشَ وَالصُّفُوفَ ، وَتَخَطَّى الْأُلُوفَ ، وَقَتَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَبْطَالِ حَتَّى أَسَرَ أَحَدَهُمْ ، وَجَاءَ بِهِ لَا يَمْلِكُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا ، فَسَأَلَهُ
سَعْدٌ عَنِ الْقَوْمِ ، فَجَعَلَ يَصِفُ شَجَاعَةَ
طُلَيْحَةَ ، فَقَالَ : دَعْنَا مِنْ هَذَا وَأَخْبِرْنَا عَنْ
رُسْتُمَ . فَقَالَ : هُوَ فِي مِائَةِ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا ، وَيَتْبَعُهَا مِثْلُهَا . وَأَسْلَمَ
[ ص: 621 ] الرَّجُلُ مِنْ فَوْرِهِ . رَحِمَهُ اللَّهُ .
قَالَ
سَيْفٌ عَنْ شُيُوخِهِ : وَلَمَّا تَوَاجَهَ الْجَيْشَانِ بَعَثَ
رُسْتُمُ إِلَى
سَعْدٍ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ بِرَجُلٍ عَاقِلٍ عَالِمٍ بِمَا أَسْأَلُهُ عَنْهُ . فَبَعَثَ إِلَيْهِ
الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ جَعَلَ
رُسْتُمُ يَقُولُ لَهُ : إِنَّكُمْ جِيرَانُنَا وَكُنَّا نُحْسِنُ إِلَيْكُمْ وَنَكُفُّ الْأَذَى عَنْكُمْ ، فَارْجِعُوا إِلَى بِلَادِكُمْ وَلَا نَمْنَعُ تُجَّارَكُمْ مِنَ الدُّخُولِ إِلَى بِلَادِنَا . فَقَالَ لَهُ
الْمُغِيرَةُ : إِنَّا لَيْسَ طَلَبُنَا الدُّنْيَا ، وَإِنَّمَا هَمُّنَا وَطَلَبُنَا الْآخِرَةُ ، وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا قَالَ لَهُ : إِنِّي قَدْ سَلَّطْتُ هَذِهِ الطَّائِفَةَ عَلَى مَنْ لَمْ يَدِنْ بِدِينِي ، فَأَنَا مُنْتَقِمٌ بِهِمْ مِنْهُمْ ، وَأَجْعَلُ لَهُمُ الْغَلَبَةَ مَا دَامُوا مُقِرِّينَ بِهِ ، وَهُوَ دِينُ الْحَقِّ لَا يَرْغَبُ عَنْهُ أَحَدٌ إِلَّا ذَلَّ ، وَلَا يَعْتَصِمُ بِهِ إِلَّا عَزَّ . فَقَالَ لَهُ
رُسْتُمُ : فَمَا هُوَ ؟ فَقَالَ : أَمَّا عَمُودُهُ الَّذِي لَا يَصْلُحُ شَيْءٌ مِنْهُ إِلَّا بِهِ ، فَشَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ
مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَالْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ . فَقَالَ : مَا أَحْسَنَ هَذَا ! وَأَيُّ شَيْءٍ أَيْضًا ؟ قَالَ : وَإِخْرَاجُ الْعِبَادِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ . قَالَ : وَحَسَنٌ أَيْضًا ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَيْضًا ؟ قَالَ : وَالنَّاسُ بَنُو
آدَمَ ، فَهُمْ إِخْوَةٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ . قَالَ : وَحَسَنٌ أَيْضًا ، ثُمَّ قَالَ
رُسْتُمُ : أَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلْنَا فِي دِينِكُمْ ، أَتَرْجِعُونَ عَنْ بِلَادِنَا ؟ قَالَ : إِي وَاللَّهِ ، ثُمَّ لَا نَقْرَبُ بِلَادَكُمْ إِلَّا فِي تِجَارَةٍ أَوْ حَاجَةٍ . قَالَ : وَحَسَنٌ أَيْضًا . قَالَ : وَلَمَّا خَرَجَ
الْمُغِيرَةُ مِنْ عِنْدِهِ ذَاكَرَ
رُسْتُمُ رُؤَسَاءَ قَوْمِهِ فِي الْإِسْلَامِ ، فَأَنِفُوا مِنْ ذَلِكَ وَأَبَوْا أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ وَأَخْزَاهُمْ ، وَقَدْ فَعَلَ .
قَالُوا : ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِ
سَعْدٌ رَسُولًا آخَرَ بِطَلَبِهِ ، وَهُوَ
رِبْعِيُّ بْنُ عَامِرٍ ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ
[ ص: 622 ] وَقَدْ زَيَّنُوا مَجْلِسَهُ بِالنَّمَارِقِ الْمُذَهَّبَةِ وَالزَّرَابِيِّ الْحَرِيرِ ، وَأَظْهَرَ الْيَوَاقِيتَ وَاللَّآلِئَ الثَّمِينَةَ ، وَالزِّينَةَ الْعَظِيمَةَ ، وَعَلَيْهِ تَاجُهُ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْتِعَةِ الثَّمِينَةِ ، وَقَدْ جَلَسَ عَلَى سَرِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ ، وَدَخَلَ
رِبْعِيٌّ بِثِيَابٍ صَفِيقَةٍ وَسَيْفٍ وَتُرْسٍ وَفَرَسٍ قَصِيرَةٍ ، وَلَمْ يَزَلْ رَاكِبَهَا حَتَّى دَاسَ بِهَا عَلَى طَرَفِ الْبُسَاطِ ، ثُمَّ نَزَلَ وَرَبَطَهَا بِبَعْضِ تِلْكَ الْوَسَائِدِ ، وَأَقْبَلَ وَعَلَيْهِ سِلَاحُهُ وَدِرْعُهُ وَبَيْضَةٌ عَلَى رَأْسِهِ ، فَقَالُوا لَهُ : ضَعْ سِلَاحَكَ . فَقَالَ : إِنِّي لَمْ آتِكُمْ ، وَإِنَّمَا جِئْتُكُمْ حِينَ دَعَوْتُمُونِي ، فَإِنْ تَرَكْتُمُونِي هَكَذَا وَإِلَّا رَجَعْتُ . فَقَالَ
رُسْتُمُ : ائْذَنُوا لَهُ . فَأَقْبَلَ يَتَوَكَّأُ عَلَى رُمْحِهِ فَوْقَ النَّمَارِقِ فَخَرَّقَ عَامَّتَهَا ، فَقَالُوا لَهُ : مَا جَاءَ بِكُمْ ؟ فَقَالَ : اللَّهُ ابْتَعَثْنَا لِنُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ ، وَمِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى سِعَتِهَا ، وَمِنْ جَوْرِ الْأَدْيَانِ إِلَى عَدْلِ الْإِسْلَامِ ، فَأَرْسَلَنَا بِدِينِهِ إِلَى خَلْقِهِ لِنَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ ، فَمَنْ قَبِلَ ذَلِكَ قَبِلْنَا مِنْهُ وَرَجَعْنَا عَنْهُ ، وَمَنْ أَبَى قَاتَلْنَاهُ أَبَدًا حَتَّى نُفْضِيَ إِلَى مَوْعُودِ اللَّهِ . قَالُوا : وَمَا مَوْعُودُ اللَّهِ ؟ قَالَ : الْجَنَّةُ لِمَنْ مَاتَ عَلَى قِتَالِ مَنْ أَبَى ، وَالظَّفَرُ لِمَنْ بَقِيَ . فَقَالَ
رُسْتُمُ : قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَكُمْ ، فَهَلْ لَكَمَ أَنْ تُؤَخِّرُوا هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى نَنْظُرَ فِيهِ وَتَنْظُرُوا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، كَمْ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ ؟ أَيَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ؟ قَالَ : لَا ، بَلْ حَتَّى نُكَاتِبَ أَهْلَ رَأْيِنَا وَرُؤَسَاءَ قَوْمِنَا . فَقَالَ :
nindex.php?page=treesubj&link=7981مَا سَنَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُؤَخِّرَ الْأَعْدَاءَ عِنْدَ اللِّقَاءِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ ، فَانْظُرْ فِي أَمْرِكَ وَأَمْرِهِمْ ، وَاخْتَرْ وَاحِدَةً مِنْ ثَلَاثٍ بَعْدَ الْأَجَلِ . فَقَالَ : أَسَيِّدُهُمُ أَنْتَ ؟ قَالَ : لَا ، وَلَكِنَّ الْمُسْلِمُونَ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ يُجِيرُ أَدْنَاهُمْ عَلَى أَعْلَاهُمْ . فَاجْتَمَعَ
رُسْتُمُ بِرُؤَسَاءِ قَوْمِهِ ، فَقَالَ : هَلْ رَأَيْتُمْ قَطُّ أَعَزَّ وَأَرْجَحَ مِنْ كَلَامِ هَذَا الرَّجُلِ ؟ فَقَالُوا : مَعَاذَ اللَّهِ أَنَّ تَمِيلَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا وَتَدَعَ دِينَكَ لِهَذَا الْكَلْبِ ! أَمَا تَرَى إِلَى ثِيَابِهِ ؟ ! فَقَالَ : وَيْلَكُمْ لَا تَنْظُرُوا إِلَى
[ ص: 623 ] الثِّيَابِ ، وَانْظُرُوا إِلَى الرَّأْيِ وَالْكَلَامِ وَالسِّيرَةِ ، إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=31575الْعَرَبَ يَسْتَخِفُّونَ بِالثِّيَابِ وَالْمَأْكَلِ ، وَيَصُونُونَ الْأَحْسَابَ .
ثُمَّ بَعَثُوا يَطْلُبُونَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي رَجُلًا ، فَبُعِثَ إِلَيْهِمْ
حُذَيْفَةُ بْنُ مِحْصَنٍ ، فَتَكَلَّمَ نَحْوَ مَا قَالَ
رِبْعِيٌّ . وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ
الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ ، فَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ حَسَنٍ طَوِيلٍ ، قَالَ فِيهِ
رُسْتُمُ لِلْمُغِيرَةِ : إِنَّمَا مَثَلُكُمْ فِي دُخُولِكُمْ أَرْضَنَا كَمَثَلِ الذُّبَابِ رَأَى الْعَسَلَ فَقَالَ : مَنْ يُوصِلُنِي إِلَيْهِ وَلَهُ دِرْهَمَانِ ؟ فَلَمَّا سَقَطَ عَلَيْهِ غَرِقَ فِيهِ ، فَجَعَلَ يَطْلُبَ الْخَلَاصَ فَلَا يَجِدُهُ ، وَجَعَلَ يَقُولُ : مَنْ يُخَلِّصُنِي وَلَهُ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ ؟ وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ ثَعْلَبٍ ضَعِيفٍ دَخَلَ جُحْرًا فِي كَرْمٍ ، فَلَمَّا رَآهُ صَاحِبُ الْكَرْمِ ضَعِيفًا رَحِمَهُ فَتَرَكَهُ ، فَلَمَّا سَمِنَ أَفْسَدَ شَيْئًا كَثِيرًا فَجَاءَ بِجَيْشِهِ ، وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ بِغِلْمَانِهِ ، فَذَهَبَ لِيَخْرُجَ فَلَمْ يَسْتَطِعْ لِسِمَنِهِ ، فَضَرَبَهُ حَتَّى قَتَلَهُ ، فَهَكَذَا تَخْرُجُونَ مِنْ بِلَادِنَا . ثُمَّ اسْتَشَاطَ غَضَبًا ، وَأَقْسَمَ بِالشَّمْسِ لَأَقْتُلَنَّكُمْ غَدًا . فَقَالَ
الْمُغِيرَةُ : سَتَعْلَمُ . ثُمَّ قَالَ
رُسْتُمُ لِلْمُغِيرَةِ : قَدْ أَمَرْتُ لَكُمْ بِكِسْوَةٍ ، وَلِأَمِيرِكُمْ بِأَلْفِ دِينَارٍ وَكِسْوَةٍ وَمَرْكُوبٍ وَتَنْصَرِفُونَ عَنَّا . فَقَالَ
الْمُغِيرَةُ : أَبْعَدَ أَنْ أَوْهَنَّا مُلْكَكُمْ وَضَعَّفْنَا عِزَّكُمْ ؟ ! وَلَنَا مُدَّةٌ نَحْوَ بِلَادِكُمْ ، وَنَأْخُذُ الْجِزْيَةَ مِنْكُمْ عَنْ يَدٍ وَأَنْتُمْ صَاغِرُونَ ، وَسَتَصِيرُونَ لَنَا عَبِيدًا عَلَى رَغْمِكُمْ . فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ اسْتَشَاطَ غَضَبًا .
وَقَالَ
ابْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ الثَّقَفِيُّ ، ثَنَا
أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ ، ثَنَا
أَبُو عَوَانَةَ ، عَنْ
حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، قَالَ : قَالَ
أَبُو وَائِلٍ : جَاءَ
سَعْدٌ حَتَّى نَزَلَ
الْقَادِسِيَّةَ وَمَعَهُ النَّاسُ . قَالَ : لَا أَدْرِي لَعَلَّنَا لَا نَزِيدُ عَلَى سَبْعَةِ
[ ص: 624 ] آلَافٍ أَوْ ثَمَانِيَةِ آلَافٍ ، بَيْنَ ذَلِكَ ، وَالْمُشْرِكُونَ ثَلَاثُونَ أَلْفًا وَنَحْوَ ذَلِكَ ، فَقَالُوا : لَا يَدَ لَكُمْ وَلَا قُوَّةَ وَلَا سِلَاحَ ، مَا جَاءَ بِكُمْ ؟ ارْجِعُوا . قَالَ : قُلْنَا : مَا نَحْنُ بِرَاجِعِينَ . فَكَانُوا يَضْحَكُونَ مِنْ نَبْلِنَا ، وَيَقُولُونَ : دُوكْ دُوكْ . وَشَبَّهُونَا بِالْمَغَازِلِ . فَلَمَّا أَبَيْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ نَرْجِعَ . قَالُوا : ابْعَثُوا إِلَيْنَا رَجُلًا مِنْكُمْ عَاقِلًا يُبَيِّنُ لَنَا مَا جَاءَ بِكُمْ . فَقَالَ
الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ : أَنَا . فَعَبَرَ إِلَيْهِمْ فَقَعَدَ مَعَ
رُسْتُمَ عَلَى السَّرِيرِ فَنَخَرُوا وَصَاحُوا ، فَقَالَ : إِنَّ هَذَا لَمْ يَزِدْنِي رِفْعَةً وَلَمْ يُنْقِصْ صَاحِبَكُمْ . فَقَالَ
رُسْتُمُ : صَدَقَ ، مَا جَاءَ بِكُمْ ؟ فَقَالَ : إِنَّا كُنَّا قَوْمًا فِي شَرٍّ وَضَلَالَةٍ ، فَبَعَثَ اللَّهُ فِينَا نَبِيًّا ، فَهَدَانَا اللَّهُ بِهِ وَرَزَقَنَا عَلَى يَدَيْهِ ، فَكَانَ فِيمَا رَزَقَنَا حَبَّةٌ تَنْبُتُ بِهَذَا الْبَلَدِ ، فَلَمَّا أَكَلْنَاهَا وَأَطْعَمْنَاهَا أَهْلِينَا ، قَالُوا : لَا صَبْرَ لَنَا عَنْهَا ، أَنْزِلُونَا هَذِهِ الْأَرْضَ حَتَّى نَأْكُلَ مِنْ هَذِهِ الْحَبَّةِ . فَقَالَ
رُسْتُمُ : إِذَنْ نَقْتُلُكُمْ . قَالَ : إِنْ قَتَلْتُمُونَا دَخَلْنَا الْجَنَّةَ ، وَإِنْ قَتَلْنَاكُمْ دَخَلْتُمُ النَّارَ ، أَوْ أَدَّيْتُمُ الْجِزْيَةَ . قَالَ : فَلَمَّا قَالَ : أَوْ أَدَّيْتُمُ الْجِزْيَةَ . نَخَرُوا وَصَاحُوا وَقَالُوا : لَا صُلْحَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ . فَقَالَ
الْمُغِيرَةُ : تَعْبُرُونَ إِلَيْنَا أَوْ نَعْبُرُ إِلَيْكُمْ ؟ فَقَالَ
رُسْتُمُ : بَلْ نَعْبُرُ إِلَيْكُمْ . فَاسْتَأْخَرَ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى عَبَرُوا ، فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ فَهَزَمُوهُمْ .
وَذَكَرَ
سَيْفٌ أَنَّ
سَعْدًا كَانَ بِهِ عِرْقُ النَّسَا يَوْمَئِذٍ ، وَأَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ وَتَلَى قَوْلَهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=105وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [ الْأَنْبِيَاءِ : 105 ] . وَصَلَّى بِالنَّاسِ الظَّهْرَ ، ثُمَّ كَبَّرَ أَرْبَعًا ،
[ ص: 625 ] وَحَمَلُوا بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَقُولُوا : لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ . ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي طَرْدِهِمْ إِيَّاهُمْ ، وَقَتْلِهِمْ لَهُمْ ، وَقُعُودِهِمْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ، وَحَصْرِهِمْ لِبَعْضِهِمْ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ حَتَّى أَكَلُوا الْكِلَابَ وَالسَّنَانِيرَ ، وَمَا رُدَّ شَارِدُهُمْ حَتَّى وَصَلَ إِلَى
نَهَاوَنْدَ ، وَلَجَأَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى
الْمَدَائِنِ وَلَحِقَهُمُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى أَبْوَابِهَا ، وَكَانَ
سَعْدٌ قَدْ بَعَثَ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى
كِسْرَى يَدْعُونَهُ إِلَى اللَّهِ قَبْلَ الْوَقْعَةِ ، فَاسْتَأْذَنُوا عَلَى
كِسْرَى ، فَأَذِنَ لَهُمْ ، وَخَرَجَ أَهْلُ الْبَلَدِ يَنْظُرُونَ إِلَى أَشْكَالِهِمْ ، وَأَرْدَيَتِهِمْ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ ، وَسِيَاطِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ ، وَالنِّعَالِ فِي أَرْجُلِهِمْ ، وَخُيُولِهِمُ الضَّعِيفَةِ ، وَخَبْطِهَا الْأَرْضَ بِأَرْجُلِهَا ، وَجَعَلُوا يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُمْ غَايَةَ الْعَجَبِ ، كَيْفَ مِثْلُ هَؤُلَاءِ يَقْهَرُونَ جُيُوشَهُمْ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهَا وَعُدَدِهَا . وَلَمَّا اسْتَأْذَنُوا عَلَى الْمَلِكِ
nindex.php?page=showalam&ids=16848يَزْدَجِرْدَ أَذِنَ لَهُمْ وَأَجْلَسَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَكَانَ مُتَكَبِّرًا قَلِيلَ الْأَدَبِ ، ثُمَّ جَعَلَ يَسْأَلُهُمْ عَنْ مَلَابِسِهِمْ هَذِهِ مَا اسْمُهَا ; عَنِ الْأَرْدِيَةِ ، وَالنِّعَالِ ، وَالسِّيَاطِ ، ثُمَّ كُلَّمَا قَالُوا لَهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ تَفَاءَلَ ، فَرَدَّ اللَّهُ فَأْلَهَ عَلَى رَأْسِهِ . ثُمَّ قَالَ لَهُمْ : مَا الَّذِي أَقْدَمَكُمْ هَذِهِ الْبِلَادَ ؟ أَظْنَنْتُمْ أَنَّا لَمَّا تَشَاغَلْنَا بِأَنْفُسِنَا اجْتَرَأْتُمْ عَلَيْنَا ؟ ! فَقَالَ لَهُ
النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ : إِنَّ اللَّهَ رَحِمَنَا فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولًا يَدُلُّنَا عَلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُنَا بِهِ ، وَيُعَرِّفُنَا الشَّرَّ وَيَنْهَانَا عَنْهُ ، وَوَعَدَنَا عَلَى إِجَابَتِهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، فَلَمْ يَدْعُ إِلَى ذَلِكَ قَبِيلَةً إِلَّا صَارُوا فِرْقَتَيْنِ ; فِرْقَةً تُقَارِبُهُ وَفِرْقَةً تُبَاعِدُهُ ، وَلَا يَدْخُلُ مَعَهُ فِي دِينِهِ إِلَّا الْخَوَاصُّ ، فَمَكَثَ بِذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ ، ثُمَّ أُمِرَ أَنْ يَنْبِذَ إِلَى مَنْ خَالَفَهُ مِنَ الْعَرَبِ وَيَبْدَأَ بِهِمْ ، فَفَعَلَ ،
[ ص: 626 ] فَدَخَلُوا مَعَهُ جَمِيعًا عَلَى وَجْهَيْنِ ; مَكْرُوهٍ عَلَيْهِ فَاغْتَبَطَ ، وَطَائِعٍ أَتَاهُ فَازْدَادَ ، فَعَرَفْنَا جَمِيعًا فَضْلَ مَا جَاءَ بِهِ عَلَى الَّذِي كُنَّا عَلَيْهِ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالضِّيقِ ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَبْدَأَ بِمَنْ يَلِينَا مِنَ الْأُمَمِ فَنَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِنْصَافِ ، فَنَحْنُ نَدْعُوكُمْ إِلَى دِينِنَا ، وَهُوَ دِينٌ حَسَّنَ الْحَسَنَ وَقَبَّحَ الْقَبِيحَ كُلَّهُ ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَأَمْرٌ مِنَ الشَّرِّ هُوَ أَهْوَنُ مِنْ آخَرَ شَرٍّ مِنْهُ ; الْجِزَاءُ ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَالْمُنَاجَزَةُ ، وَإِنْ أَجَبْتُمْ إِلَى دِينِنَا خَلَّفْنَا فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ ، وَأَقَمْنَاكُمْ عَلَيْهِ عَلَى أَنْ تَحْكُمُوا بِأَحْكَامِهِ وَنَرْجِعَ عَنْكُمْ ، وَشَأْنَكُمْ وَبِلَادَكُمْ ، وَإِنِ اتَّقَيْتُمُونَا بِالْجِزَيِ قَبِلْنَا وَمَنَعْنَاكُمْ ، وَإِلَّا قَاتَلْنَاكُمْ . قَالَ : فَتَكَلَّمَ
nindex.php?page=showalam&ids=16848يَزْدَجِرْدُ فَقَالَ : إِنِّي لَا أَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمَّةً كَانَتْ أَشْقَى وَلَا أَقَلَّ عَدَدًا وَلَا أَسْوَأَ ذَاتِ بَيْنٍ مِنْكُمْ ، قَدْ كُنَّا نُوَكِّلُ بِكُمْ قُرَى الضَّوَاحِي فَيَكْفُونَاكُمْ ، لَا تَغْزُوكُمْ
فَارِسُ وَلَا تَطْمَعُونَ أَنْ تَقُومُوا لَهُمْ ، فَإِنْ كَانَ عَدَدُكُمْ كَثُرَ فَلَا يُغْرُنَّكُمْ مِنَّا ، وَإِنْ كَانَ الْجَهْدُ دَعَاكُمْ فَرَضْنَا لَكُمْ قُوتًا إِلَى خِصْبِكُمْ ، وَأَكْرَمْنَا وُجُوهَكُمْ وَكَسَوْنَاكُمْ ، وَمَلَّكْنَا عَلَيْكُمْ مَلِكًا يَرْفُقُ بِكُمْ . فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ ، فَقَامَ
الْمُغِيرَةُ بْنُ زُرَارَةَ فَقَالَ : أَيُّهَا الْمَلِكُ ، إِنَّ هَؤُلَاءِ رُءُوسُ الْعَرَبِ وَوُجُوهُهُمْ ، وَهُمْ أَشْرَافٌ يَسْتَحْيُونَ مِنَ الْأَشْرَافِ ، وَإِنَّمَا يُكْرِمُ الْأَشْرَافَ الْأَشْرَافُ ، وَيُعَظِّمُ حُقُوقَ الْأَشْرَافِ الْأَشْرَافُ ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا أُرْسِلُوا لَهُ جَمَعُوهُ لَكَ ، وَلَا كُلُّ مَا تَكَلَّمْتَ بِهِ
[ ص: 627 ] أَجَابُوكَ عَنْهُ ، وَقَدْ أَحْسَنُوا ، وَلَا يَحْسُنُ بِمِثِلِهِمْ إِلَّا ذَلِكَ ، فَجَاوِبْنِي فَأَكُونَ أَنَا الَّذِي أُبَلِّغُكَ وَيَشْهَدُونَ عَلَى ذَلِكَ ; إِنَّكَ قَدْ وَصَفْتَنَا صِفَةً لَمْ تَكُنْ بِهَا عَالِمًا ، فَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ سُوءِ الْحَالِ ، فَمَا كَانَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَّا ، وَأَمَّا جُوعُنَا فَلَمْ يَكُنْ يُشْبِهُ الْجُوعَ ; كُنَّا نَأْكُلُ الْخَنَافِسَ وَالْجِعْلَانَ وَالْعَقَارِبَ وَالْحَيَّاتِ وَنَرَى ذَلِكَ طَعَامَنَا ، وَأَمَّا الْمَنَازِلُ فَإِنَّمَا هِيَ ظَهْرُ الْأَرْضِ ، وَلَا نَلْبَسُ إِلَّا مَا غَزَلْنَا مِنْ أَوْبَارِ الْإِبِلِ وَأَشْعَارِ الْغَنَمِ ، دِينُنَا أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُنَا بَعْضًا ، وَأَنْ يُغِيرَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَدْفِنُ ابْنَتَهُ وَهَى حَيَّةٌ ; كَرَاهِيَةَ أَنْ تَأْكُلَ مِنْ طَعَامِهِ ، فَكَانَتْ حَالُنَا قَبْلَ الْيَوْمِ عَلَى مَا ذَكَرْتُ لَكَ ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَجُلًا مَعْرُوفًا ; نَعْرِفُ نَسَبَهُ ، وَنَعْرِفُ وَجْهَهُ وَمَوْلِدَهُ ، فَأَرْضُهُ خَيْرُ أَرْضِنَا ، وَحَسَبُهُ خَيْرُ أَحْسَابِنَا ، وَبَيْتُهُ خَيْرُ بُيُوتِنَا ، وَقَبِيلَتُهُ خَيْرُ قَبَائِلِنَا ، وَهُوَ نَفْسُهُ كَانَ خَيْرُنَا فِي الْحَالِ الَّتِي كَانَ فِيهَا أَصْدَقَنَا وَأَحْلَمَنَا ، فَدَعَانَا إِلَى أَمْرٍ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ أَوَّلَ مِنْ تِرْبٍ كَانَ لَهُ وَكَانَ الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِهِ ، فَقَالَ وَقُلْنَا ، وَصَدَقَ وَكَذَبْنَا ، وَزَادَ وَنَقَصْنَا فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا إِلَّا كَانَ ، فَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِنَا التَّصْدِيقَ لَهُ وَاتِّبَاعَهُ ، فَصَارَ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، فَمَا قَالَ لَنَا فَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ ، وَمَا أَمَرَنَا فَهُوَ أَمْرُ اللَّهِ ، فَقَالَ لَنَا : إِنَّ رَبَّكُمْ يَقُولُ : أَنَا اللَّهُ وَحْدِي لَا شَرِيكَ لِي ، كُنْتُ إِذْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ ، وَكُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهِي ، وَأَنَا خَلَقْتُ كُلَّ شَيْءٍ وَإِلَيَّ يَصِيرُ كُلُّ شَيْءٍ ، وَإِنَّ رَحْمَتِي أَدْرَكَتْكُمْ ، فَبَعَثْتُ إِلَيْكُمْ هَذَا الرَّجُلَ لِأَدُلَّكُمْ عَلَى السَّبِيلِ الَّتِي أُنْجِيكُمْ بِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ عَذَابِي ، وَلِأُحِلَّكُمْ دَارِي دَارَ السَّلَامِ . فَنَشْهَدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِ الْحَقِّ . وَقَالَ : مَنْ تَابَعَكُمْ
[ ص: 628 ] عَلَى هَذَا فَلَهُ مَا لَكَمَ وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْكُمْ ، وَمَنْ أَبَى فَاعْرِضُوا عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ ، ثُمَّ امْنَعُوهُ مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ ، وَمَنْ أَبَى فَقَاتِلُوهُ ، فَأَنَا الْحَكَمُ بَيْنَكُمْ ، فَمَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ أَدْخَلْتُهُ جَنَّتِي ، وَمَنْ بَقِيَ مِنْكُمْ أَعْقَبْتُهُ النَّصْرَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُ . فَاخْتَرْ إِنْ شِئْتَ الْجِزْيَةَ ، وَأَنْتَ صَاغِرٌ ، وَإِنْ شِئْتَ فَالسَّيْفَ ، أَوْ تُسْلِمُ فَتُنَجِّيَ نَفْسَكَ . فَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16848يَزْدَجِرْدُ : اسْتَقْبَلْتَنِي بِمِثْلِ هَذَا ؟ ! فَقَالَ : مَا اسْتَقْبَلْتُ إِلَّا مَنْ كَلَّمَنِي ، وَلَوْ كَلَّمَنِي غَيْرُكَ لَمْ أَسْتَقْبِلْكَ بِهِ . فَقَالَ : لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكُمْ ، لَا شَيْءَ لَكُمْ عِنْدِي . وَقَالَ : ائْتُونِي بِوَقْرٍ مِنْ تُرَابٍ ، فَاحْمِلُوهُ عَلَى أَشْرَفِ هَؤُلَاءِ ، ثُمَّ سُوقُوهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ أَبْيَاتِ
الْمَدَائِنِ ، ارْجِعُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ فَأَعْلِمُوهُ أَنِّي مُرْسِلٌ إِلَيْهِ رُسْتُمَ حَتَّى يَدْفِنَهُ وَجُنْدَهُ فِي خَنْدَقِ
الْقَادِسِيَّةِ وَيُنَكِّلَ بِهِ وَبِكُمْ مِنْ بَعْدُ ، ثُمَّ أُورِدُهُ بِلَادَكُمْ حَتَّى أَشْغَلَكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ بِأَشَدَّ مِمَّا نَالَكُمْ مِنْ سَابُورَ . ثُمَّ قَالَ : مَنْ أَشْرَفُكُمْ ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ ، فَقَالَ
عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو ، وَافْتَاتَ لِيَأْخُذَ التُّرَابَ : أَنَا أَشْرَفُهُمْ ، أَنَا سَيِّدُ هَؤُلَاءِ ، فَحَمِّلْنِيهِ . فَقَالَ : أَكَذَاكَ ؟ قَالُوا : نَعَمْ . فَحَمَلَهُ عَلَى عُنُقِهِ فَخَرَجَ بِهِ مِنَ الْإِيوَانِ وَالدَّارِ حَتَّى أَتَى رَاحِلَتَهُ ، فَحَمَلَهُ عَلَيْهَا ثُمَّ انْجَذَبَ فِي السَّيْرِ فَأَتَوْا بِهِ
سَعْدًا ، وَسَبَقَهُمْ عَاصِمٌ ، فَمَرَّ بِبَابِ قُدَيْسٍ فَطَوَاهُ فَقَالَ : بَشِّرُوا الْأَمِيرَ بِالظَّفَرِ ، ظَفِرْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . ثُمَّ مَضَى حَتَّى جَعَلَ التُّرَابَ فِي الْحِجْرِ ، ثُمَّ رَجَعَ فَدَخَلَ عَلَى
سَعْدٍ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ . فَقَالَ : أَبْشِرُوا فَقَدْ وَاللَّهِ أَعْطَانَا اللَّهُ أَقَالِيدَ مُلْكِهِمْ . وَتَفَاءَلُوا بِذَلِكَ أَخْذَ بِلَادِهِمْ ، ثُمَّ لَمْ
[ ص: 629 ] يَزَلْ أَمْرُ الصَّحَابَةِ يَزْدَادُ فِي كُلِّ يَوْمٍ عُلُوًّا وَشَرَفًا وَرِفْعَةً ، وَيَنْحَطُّ أَمْرَ
الْفُرْسِ سُفْلًا وَذُلًّا وَوَهَنًا .
وَلَمَّا رَجَعَ
رُسْتُمُ إِلَى الْمَلِكِ يَسْأَلُهُ عَنْ حَالِ مَنْ رَأَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَذَكَرَ لَهُ عَقْلَهُمْ وَفَصَاحَتَهُمْ وَحِدَّةَ جَوَابِهِمْ ، وَأَنَّهُمْ يَرُومُونَ أَمْرًا يُوشِكُ أَنْ يُدْرِكُوهُ ، وَذَكَرَ لَهُ مَا أَمَرَ بِهِ أَشْرَفَهُمْ مِنْ حَمْلِ التُّرَابِ ، وَأَنَّهُ اسْتَحْمَقَ أَشْرَفَهُمْ فِي حَمْلِهِ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ ، وَلَوْ شَاءَ اتَّقَى بِغَيْرِهِ وَأَنَا لَا أَشْعُرُ . فَقَالَ لَهُ
رُسْتُمُ : إِنَّهُ لَيْسَ بِأَحْمَقَ وَلَيْسَ هُوَ بِأَشْرَفِهِمْ ، إِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَفْتَدِيَ قَوْمَهُ بِنَفْسِهِ ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ ذَهَبُوا بِمَفَاتِيحِ أَرْضِنَا . وَكَانَ
رُسْتُمُ مُنَجِّمًا ، ثُمَّ أَرْسَلَ رَجُلًا وَرَاءَهُمْ ، وَقَالَ : إِنْ أَدْرَكَ التُّرَابَ فَرَدَّهُ تَدَارَكْنَا أَمْرَنَا ، وَإِنْ ذَهَبُوا بِهِ إِلَى أَمِيرِهِمْ غَلَبُونَا عَلَى أَرْضِنَا . قَالَ : فَسَاقَ وَرَاءَهُمْ فَلَمْ يُدْرِكْهُمْ ، بَلْ سَبَقُوهُ إِلَى
سَعْدٍ بِالتُّرَابِ . وَسَاءَ ذَلِكَ
فَارِسَ وَغَضِبُوا مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الْغَضَبِ ، وَاسْتَهْجَنُوا رَأْيَ الْمَلِكِ .