[ ص: 359 ] بسم الله الرحمن الرحيم سورة مريم قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=1كهيعص nindex.php?page=treesubj&link=28990_31976nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=2ذكر رحمة ربك عبده زكريا nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=3إذ نادى ربه نداء خفيا nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=4قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا .
قد قدمنا الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور ، كقوله هنا :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=1كهيعص [ 19 \ 1 ] ، في سورة " هود " فأغنى عن إعادته هنا . وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=2ذكر رحمة ربك [ 19 \ 2 ] ، خبر مبتدأ محذوف ، أي : هذا ذكر رحمة ربك ، وقيل : مبتدأ خبره محذوف ، وتقديره : فيما يتلى عليكم ذكر رحمة ربك ، والأول أظهر ، والقول بأنه خبر عن قوله "
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=1كهيعص " ظاهر السقوط لعدم ربط بينهما ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=2ذكر رحمة ربك لفظة " ذكر " مصدر مضاف إلى مفعوله ، ولفظة " رحمة " مصدر مضاف إلى فاعله وهو " ربك " ، وقولـه : عبده مفعول به للمصدر الذي هو " رحمة " المضاف إلى فاعله ، على حد قوله في الخلاصة :
وبعد جره الذي أضيف له كمل بنصب أو برفع عمله وقوله : " زكريا " بدل من قوله " عبده " أو عطف بيان عليه ، وقد بين جل وعلا في هذه الآية : أن هذا الذي يتلى في أول هذه السورة الكريمة هو ذكر الله رحمته التي رحم بها عبده
زكريا حين ناداه نداء خفيا أي : دعاه في سر وخفية ، وثناؤه جل وعلا عليه بكون دعائه خفيا يدل على أن
nindex.php?page=treesubj&link=19732إخفاء الدعاء أفضل من إظهاره وإعلانه ، وهذا المعنى المفهوم من هذه الآية جاء مصرحا به في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=63قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية الآية [ 6 \ 63 ] ، وقولـه تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=55ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين [ 7 \ 55 ] ، وإنما كان الإخفاء أفضل من الإظهار ; لأنه أقرب إلى الإخلاص ، وأبعد من الرياء ، فقول من قال : إن سبب إخفائه دعاءه أنه خوفه من قومه أن يلوموه على طلب الولد ، في حالة لا يمكن فيها الولد عادة لكبر
[ ص: 360 ] سنه وسن امرأته ، وكونها عاقرا ، وقول من قال : إنه أخفاه ; لأنه طلب أمر دنيوي ، فإن أجاب الله دعاءه فيه نال ما كان يريد ، وإن لم يجبه لم يعلم ذلك أحد ، إلى غير ذلك من الأقوال ، كل ذلك ليس بالأظهر ، والأظهر أن السر في إخفائه هو ما ذكرنا من كون الإخفاء أفضل من الإعلان في الدعاء ، ودعاء
زكريا هذا لم يبين الله في هذا الموضع مكانه ولا وقته ، ولكنه أشار إلى ذلك في سورة " آل عمران " في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=37كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يامريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=38هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة [ 3 \ 37 - 38 ] ، فقوله " هنالك " أي : في ذلك المكان الذي وجد فيه ذلك الرزق عند
مريم .
وقال بعضهم : " هنالك " أي : في ذلك الوقت ، بناء على أن هنا ربما أشير بها إلى الزمان ، وقوله في دعائه هذا :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=4رب إني وهن العظم مني [ 19 \ 4 ] ، أي : ضعف ، والوهن : الضعف ، وإنما ذكر ضعف العظم ; لأنه عمود البدن وبه قوامه ، وهو أصل بنائه فإذا وهن دل على ضعف جميع البدن ; لأنه أشد ما فيه وأصلبه ، فوهنه يستلزم وهن غيره من البدن .
الحرف المنير \ سحر \ أضواء البيان ج 4 \ من ص 204 - إلى ص 212 وقولـه :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=4واشتعل الرأس شيبا ، الألف واللام في " الرأس " قاما مقام المضاف إليه ، إذ المراد : واشتعل رأسي شيبا ، والمراد باشتعال الرأس شيبا : انتشار بياض الشيب فيه ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في كشافه : شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته وانتشاره في الشعر وفشوه فيه ، وأخذه منه كل مأخذ باشتعال النار ، ثم أخرجه مخرج الاستعارة ، ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس ، وأخرج الشيب مميزا ، ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس
زكريا ، فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة انتهى منه ، والظاهر عندنا كما بينا مرارا : أن مثل هذا من التعبير عن انتشار بياض الشيب في الرأس ، باشتعال الرأس شيبا أسلوب من أساليب اللغة العربية الفصحى جاء القرآن به ، ومنه قول الشاعر :
ضيعت حزمي في إبعادي الأملا وما ارعويت وشيبا رأسي اشتعلا
ومن هذا القبيل قول
nindex.php?page=showalam&ids=13147ابن دريد في مقصورته .
واشتعل المبيض في موسده مثل اشتعال النار في جزل الغضا
[ ص: 361 ] وقوله " شيبا " تمييز محول عن الفاعل في أظهر الأعاريب ، خلافا لمن زعم أنه ما ناب عن المطلق من قوله " واشتعل " لأنه اشتعل بمعنى شاب ، فيكون " شيبا " مصدرا منه في المعنى ومن زعم أيضا أنه مصدر منكر في موضع الحال .
وهذا الذي ذكره الله هنا عن
زكريا في دعائه من إظهار الضعف والكبر جاء في مواضع أخر ، كقوله هنا :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=8وقد بلغت من الكبر عتيا [ 19 \ 8 ] ، وقولـه في " آل عمران " :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=40وقد بلغني الكبر الآية [ 3 \ 40 ] ، وهذا الذي ذكره هنا من إظهار الضعف يدل على أنه ينبغي للداعي
nindex.php?page=treesubj&link=26146إظهار الضعف والخشية والخشوع في دعائه .
وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=4ولم أكن بدعائك رب شقيا [ 19 \ 4 ] ، أي : لم أكن بدعائي إياك شقيا ، أي : لم تكن تخيب دعائي إذا دعوتك ، يعني أنك عودتني الإجابة فيما مضى ، والعرب تقول : شقي بذلك إذا تعب فيه ولم يحصل مقصوده ، وربما أطلقت الشقاء على التعب ، كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=117إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى [ 20 \ 117 ] ، وأكثر ما يستعمل في ضد السعادة ، ولا شك أن إجابة الدعاء من السعادة ، فيكون عدم إجابته من الشقاء .
[ ص: 359 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ مَرْيَمَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=1كهيعص nindex.php?page=treesubj&link=28990_31976nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=2ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=3إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=4قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا .
قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ ، كَقَوْلِهِ هُنَا :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=1كهيعص [ 19 \ 1 ] ، فِي سُورَةِ " هُودٍ " فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا . وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=2ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ [ 19 \ 2 ] ، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ ، أَيْ : هَذَا ذِكِرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ ، وَقِيلَ : مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ ، وَتَقْدِيرُهُ : فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ قَوْلِهِ "
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=1كهيعص " ظَاهِرُ السُّقُوطِ لِعَدَمِ رَبْطٍ بَيْنَهُمَا ، وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=2ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ لَفْظَةُ " ذِكْرُ " مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ ، وَلَفْظَةُ " رَحْمَةٍ " مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى فَاعِلِهِ وَهُوَ " رَبِّكَ " ، وَقَوْلُـهُ : عَبْدَهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِلْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ " رَحْمَةِ " الْمُضَافُ إِلَى فَاعِلِهِ ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ :
وَبَعْدَ جَرِّهِ الَّذِي أُضِيفَ لَهْ كَمِّلْ بِنَصْبٍ أَوْ بِرَفْعٍ عَمَلَهْ وَقَوْلُهُ : " زَكَرِيَّا " بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ " عَبْدَهُ " أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ عَلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ : أَنَّ هَذَا الَّذِي يُتْلَى فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ رَحْمَتَهُ الَّتِي رَحِمَ بِهَا عَبْدَهُ
زَكَرِيَّا حِينَ نَادَاهُ نِدَاءً خَفِيًّا أَيْ : دَعَاهُ فِي سِرٍّ وَخُفْيَةٍ ، وَثَنَاؤُهُ جَلَّ وَعَلَا عَلَيْهِ بِكَوْنِ دُعَائِهِ خَفِيًّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19732إِخْفَاءَ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ مِنْ إِظْهَارِهِ وَإِعْلَانِهِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَفْهُومُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=63قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً الْآيَةَ [ 6 \ 63 ] ، وَقَوْلِـهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=55ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [ 7 \ 55 ] ، وَإِنَّمَا كَانَ الْإِخْفَاءُ أَفْضَلَ مِنَ الْإِظْهَارِ ; لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْإِخْلَاصِ ، وَأَبْعَدُ مِنَ الرِّيَاءِ ، فَقَوْلُ مَنْ قَالَ : إِنَّ سَبَبَ إِخْفَائِهِ دُعَاءَهُ أَنَّهُ خَوَّفَهُ مِنْ قَوْمِهِ أَنْ يَلُومُوهُ عَلَى طَلَبِ الْوَلَدِ ، فِي حَالَةٍ لَا يُمْكِنُ فِيهَا الْوَلَدُ عَادَةً لِكِبَرِ
[ ص: 360 ] سِنِّهِ وَسِنِّ امْرَأَتِهِ ، وَكَوْنِهَا عَاقِرًا ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : إِنَّهُ أَخْفَاهُ ; لِأَنَّهُ طَلَبُ أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ ، فَإِنْ أَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ فِيهِ نَالَ مَا كَانَ يُرِيدُ ، وَإِنْ لَمْ يُجِبْهُ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ أَحَدٌ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ ، كُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ بِالْأَظْهَرِ ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ السِّرَّ فِي إِخْفَائِهِ هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ الْإِخْفَاءِ أَفْضَلَ مِنَ الْإِعْلَانِ فِي الدُّعَاءِ ، وَدُعَاءُ
زَكَرِيَّا هَذَا لَمْ يُبَيِّنِ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَكَانَهُ وَلَا وَقْتَهُ ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ " آلِ عِمْرَانَ " فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=37كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=38هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [ 3 \ 37 - 38 ] ، فَقَوْلُهُ " هُنَالِكَ " أَيْ : فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي وَجَدَ فِيهِ ذَلِكَ الرِّزْقَ عِنْدَ
مَرْيَمَ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : " هُنَالِكَ " أَيْ : فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ هُنَا رُبَّمَا أُشِيرَ بِهَا إِلَى الزَّمَانِ ، وَقَوْلُهُ فِي دُعَائِهِ هَذَا :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=4رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [ 19 \ 4 ] ، أَيْ : ضَعُفَ ، وَالْوَهْنُ : الضَّعْفُ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ ضَعْفَ الْعَظْمِ ; لِأَنَّهُ عَمُودُ الْبَدَنِ وَبِهِ قِوَامُهُ ، وَهُوَ أَصْلُ بِنَائِهِ فَإِذَا وَهَنَ دَلَّ عَلَى ضَعْفِ جَمِيعِ الْبَدَنِ ; لِأَنَّهُ أَشَدُّ مَا فِيهِ وَأَصْلَبُهُ ، فَوَهْنُهُ يَسْتَلْزِمُ وَهْنَ غَيْرِهِ مِنَ الْبَدَنِ .
الْحَرْفُ الْمُنِيرُ \ سِحْرٌ \ أَضْوَاءُ الْبَيَانِ ج 4 \ مِنْ ص 204 - إِلَى ص 212 وَقَوْلُـهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=4وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ، الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي " الرَّأْسِ " قَامَا مَقَامَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ ، إِذِ الْمُرَادُ : وَاشْتَعَلَ رَأْسِي شَيْبًا ، وَالْمُرَادُ بِاشْتِعَالِ الرَّأْسِ شَيْبًا : انْتِشَارُ بَيَاضِ الشَّيْبِ فِيهِ ، قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ : شَبَّهَ الشَّيْبَ بِشُوَاظِ النَّارِ فِي بَيَاضِهِ وَإِنَارَتِهِ وَانْتِشَارِهِ فِي الشِّعْرِ وَفُشُوِّهِ فِيهِ ، وَأَخْذِهِ مِنْهُ كُلَّ مَأْخَذٍ بِاشْتِعَالِ النَّارِ ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الِاسْتِعَارَةِ ، ثُمَّ أَسْنَدَ الِاشْتِعَالَ إِلَى مَكَانِ الشَّعْرِ وَمَنْبَتِهِ وَهُوَ الرَّأْسُ ، وَأَخْرَجَ الشَّيْبَ مُمَيِّزًا ، وَلَمْ يُضِفِ الرَّأْسَ اكْتِفَاءً بِعِلْمِ الْمُخَاطَبِ أَنَّهُ رَأْسُ
زَكَرِيَّا ، فَمِنْ ثَمَّ فَصُحَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَشُهِدَ لَهَا بِالْبَلَاغَةِ انْتَهَى مِنْهُ ، وَالظَّاهِرُ عِنْدَنَا كَمَا بَيَّنَّا مِرَارًا : أَنَّ مِثْلَ هَذَا مِنَ التَّعْبِيرِ عَنِ انْتِشَارِ بَيَاضِ الشَّيْبِ فِي الرَّأْسِ ، بِاشْتِعَالِ الرَّأْسِ شَيْبًا أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْفُصْحَى جَاءَ الْقُرْآنُ بِهِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ :
ضَيَّعْتُ حَزْمِي فِي إِبْعَادِي الْأَمَلَا وَمَا ارْعَوَيْتُ وَشَيْبًا رَأْسِيَ اشْتَعَلَا
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ
nindex.php?page=showalam&ids=13147ابْنِ دُرَيْدٍ فِي مَقْصُورَتِهِ .
وَاشْتَعَلَ الْمِبْيَضُ فِي مُوَسَّدِهِ مِثْلَ اشْتِعَالِ النَّارِ فِي جَزْلِ الْغَضَا
[ ص: 361 ] وَقَوْلُهُ " شَيْبًا " تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الْفَاعِلِ فِي أَظْهَرِ الْأَعَارِيبِ ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَا نَابَ عَنِ الْمُطْلَقِ مِنْ قَوْلِهِ " وَاشْتَعَلَ " لِأَنَّهُ اشْتَعَلَ بِمَعْنَى شَابَ ، فَيَكُونُ " شَيْبًا " مَصْدَرًا مِنْهُ فِي الْمَعْنَى وَمَنْ زَعَمَ أَيْضًا أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُنَكَّرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ .
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ هُنَا عَنْ
زَكَرِيَّا فِي دُعَائِهِ مِنْ إِظْهَارِ الضَّعْفِ وَالْكِبَرِ جَاءَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ، كَقَوْلِهِ هُنَا :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=8وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [ 19 \ 8 ] ، وَقَوْلِـهِ فِي " آلِ عِمْرَانَ " :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=40وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ الْآيَةَ [ 3 \ 40 ] ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ إِظْهَارِ الضَّعْفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلدَّاعِي
nindex.php?page=treesubj&link=26146إِظْهَارُ الضَّعْفِ وَالْخَشْيَةِ وَالْخُشُوعِ فِي دُعَائِهِ .
وَقَوْلُـهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=4وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا [ 19 \ 4 ] ، أَيْ : لَمْ أَكُنْ بِدُعَائِي إِيَّاكَ شَقِيًّا ، أَيْ : لَمْ تَكُنْ تُخَيِّبُ دُعَائِي إِذَا دَعَوْتُكَ ، يَعْنِي أَنَّكَ عَوَّدْتَنِي الْإِجَابَةَ فِيمَا مَضَى ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ : شَقِيَ بِذَلِكَ إِذَا تَعِبَ فِيهِ وَلَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ ، وَرُبَّمَا أَطْلَقْتَ الشَّقَاءَ عَلَى التَّعَبِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=117إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [ 20 \ 117 ] ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي ضِدِّ السَّعَادَةِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إِجَابَةَ الدُّعَاءِ مِنَ السَّعَادَةِ ، فَيَكُونُ عَدَمُ إِجَابَتِهِ مِنَ الشَّقَاءِ .