فصل منزلة الرضا
ومن منازل
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إياك نعبد وإياك نستعين nindex.php?page=treesubj&link=19626منزلة الرضا
وقد أجمع العلماء على أنه مستحب ، مؤكد استحبابه . واختلفوا في وجوبه على قولين .
[ ص: 170 ] وسمعت شيخ الإسلام
ابن تيمية - قدس الله روحه - يحكيهما على قولين لأصحاب
أحمد . وكان يذهب إلى القول باستحبابه .
قال : ولم يجئ الأمر به ، كما جاء الأمر بالصبر . وإنما جاء الثناء على أصحابه ومدحهم .
قال : وأما ما يروى من الأثر : من لم يصبر على بلائي ، ولم يرض بقضائي ، فليتخذ ربا سوائي . فهذا أثر إسرائيلي ، ليس يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قلت : ولا سيما عند من يرى أنه من جملة الأحوال التي ليست بمكتسبة ، بل هو موهبة محضة . فكيف يؤمر به . وليس مقدورا عليه ؟
وهذه مسألة اختلف فيها أرباب السلوك على ثلاث طرق
فالخراسانيون قالوا :
nindex.php?page=treesubj&link=19626الرضا من جملة المقامات . وهو نهاية التوكل . فعلى هذا : يمكن أن يتوصل إليه العبد باكتسابه .
والعراقيون قالوا : هو من جملة الأحوال . وليس كسبيا للعبد ، بل هو نازلة تحل بالقلب كسائر الأحوال .
والفرق بين المقامات والأحوال : أن المقامات عندهم من المكاسب . والأحوال مجرد المواهب .
وحكمت فرقة ثالثة بين الطائفتين . منهم
القشيري - صاحب الرسالة - وغيره ، فقالوا : يمكن الجمع بينهما ، بأن يقال : بداية الرضا مكتسبة للعبد . وهي من جملة المقامات . ونهايته من جملة الأحوال . وليست مكتسبة . فأوله مقام ، ونهايته حال .
واحتج من جعله من جملة المقامات : بأن الله مدح أهله ، وأثنى عليهم وندبهم إليه . فدل ذلك على أنه مقدور لهم .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=hadith&LINKID=980335ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا .
[ ص: 171 ] وقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980387من قال حين يسمع النداء : رضيت بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا ، غفرت له ذنوبه .
وهذان الحديثان عليهما مدار مقامات الدين ، وإليهما ينتهي . وقد تضمنا الرضا بربوبيته سبحانه وألوهيته . والرضا برسوله ، والانقياد له . والرضا بدينه ، والتسليم له ، ومن اجتمعت له هذه الأربعة : فهو الصديق حقا . وهي سهلة بالدعوى واللسان . وهي من أصعب الأمور عند الحقيقة والامتحان . ولا سيما إذا جاء ما يخالف هوى النفس ومرادها . من ذلك تبين أن الرضا كان لسانه به ناطقا . فهو على لسانه لا على حاله .
فالرضا بإلهيته يتضمن الرضا بمحبته وحده ، وخوفه ، ورجائه ، والإنابة إليه ، والتبتل إليه ، وانجذاب قوى الإرادة والحب كلها إليه . فعل الراضي بمحبوبه كل الرضا . وذلك يتضمن عبادته والإخلاص له .
nindex.php?page=treesubj&link=19635_19627والرضا بربوبيته : يتضمن الرضا بتدبيره لعبده . ويتضمن إفراده بالتوكل عليه . والاستعانة به ، والثقة به ، والاعتماد عليه . وأن يكون راضيا بكل ما يفعل به .
فالأول : يتضمن رضاه بما يؤمر به . والثاني : يتضمن رضاه بما يقدر عليه .
وأما
nindex.php?page=treesubj&link=19637الرضا بنبيه رسولا : فيتضمن كمال الانقياد له . والتسليم المطلق إليه ، بحيث يكون أولى به من نفسه . فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته . ولا يحاكم إلا إليه . ولا يحكم عليه غيره ، ولا يرضى بحكم غيره ألبتة . لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله . ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته . ولا في شيء من أحكام ظاهره وباطنه . لا يرضى في ذلك بحكم غيره . ولا يرضى إلا بحكمه . فإن عجز عنه كان تحكيمه غيره من باب غذاء المضطر إذا لم يجد ما يقيته إلا من الميتة والدم . وأحسن أحواله : أن يكون من باب التراب الذي إنما يتيمم به عند العجز عن استعمال الماء الطهور .
وأما
nindex.php?page=treesubj&link=19638الرضا بدينه : فإذا قال ، أو حكم ، أو أمر ، أو نهى : رضي كل الرضا . ولم يبق في قلبه حرج من حكمه . وسلم له تسليما . ولو كان مخالفا لمراد نفسه أو هواها ، أو قول مقلده وشيخه وطائفته .
[ ص: 172 ] وهاهنا يوحشك الناس كلهم إلا الغرباء في العالم . فإياك أن تستوحش من الاغتراب والتفرد . فإنه والله عين العزة ، والصحبة مع الله ورسوله ، وروح الأنس به . والرضا به ربا ،
وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا وبالإسلام دينا .
بل الصادق كلما وجد مس الاغتراب ، وذاق حلاوته ، وتنسم روحه . قال : اللهم زدني اغترابا ، ووحشة من العالم ، وأنسا بك . وكلما ذاق حلاوة هذا الاغتراب ، وهذا التفرد : رأى الوحشة عين الأنس بالناس ، والذل عين العز بهم . والجهل عين الوقوف مع آرائهم وزبالة أذهانهم ، والانقطاع عين التقيد برسومهم وأوضاعهم . فلم يؤثر بنصيبه من الله أحدا من الخلق . ولم يبع حظه من الله بموافقتهم فيما لا يجدي عليه إلا الحرمان . وغايته : مودة بينهم في الحياة الدنيا . فإذا انقطعت الأسباب . وحقت الحقائق ، وبعثر ما في القبور ، وحصل ما في الصدور ، وبليت السرائر ، ولم يجد من دون مولاه الحق من قوة ولا ناصر : تبين له حينئذ مواقع الربح والخسران . وما الذي يخف أو يرجح به الميزان . والله المستعان ، وعليه التكلان .
والتحقيق في المسألة : أن
nindex.php?page=treesubj&link=19625الرضا كسبي باعتبار سببه ، موهبي باعتبار حقيقته . فيمكن أن يقال بالكسب لأسبابه . فإذا تمكن في أسبابه وغرس شجرته : اجتنى منها ثمرة الرضا . فإن
nindex.php?page=treesubj&link=19626الرضا آخر التوكل . فمن رسخ قدمه في التوكل والتسليم والتفويض : حصل له الرضا ولا بد . ولكن لعزته وعدم إجابة أكثر النفوس له ، وصعوبته عليها - لم يوجبه الله على خلقه . رحمة بهم ، وتخفيفا عنهم . لكن ندبهم إليه . وأثنى على أهله ، وأخبر أن ثوابه رضاه عنهم ، الذي هو أعظم وأكبر وأجل من الجنان وما فيها . فمن رضي عن ربه رضي الله عنه . بل رضا العبد عن الله من نتائج رضا الله عنه . فهو محفوف بنوعين من رضاه عن عبده : رضا قبله ، أوجب له أن يرضى عنه ، ورضا بعده . هو ثمرة رضاه عنه . ولذلك كان الرضا باب الله الأعظم ، وجنة الدنيا ، ومستراح العارفين ، وحياة المحبين ، ونعيم العابدين ، وقرة عيون المشتاقين .
ومن أعظم
nindex.php?page=treesubj&link=19635_19638أسباب حصول الرضا : أن يلزم ما جعل الله رضاه فيه . فإنه يوصله إلى مقام الرضا ولا بد .
قيل
nindex.php?page=showalam&ids=17335ليحيى بن معاذ : متى يبلغ العبد إلى مقام الرضا ؟ فقال : إذا أقام نفسه على أربعة أصول فيما يعامل به ربه ، فيقول : إن أعطيتني قبلت . وإن منعتني رضيت . وإن تركتني عبدت . وإن دعوتني أجبت .
وقال
الجنيد : الرضا هو صحة العلم الواصل إلى القلب . فإذا باشر القلب
[ ص: 173 ] حقيقة العلم أداه إلى الرضا .
وليس الرضا والمحبة كالرجاء والخوف . فإن
nindex.php?page=treesubj&link=19626_28683الرضا والمحبة حالان من أحوال أهل الجنة . لا يفارقان المتلبس بهما في الدنيا ، ولا في البرزخ ، ولا في الآخرة . بخلاف الخوف والرجاء . فإنهما يفارقان أهل الجنة بحصول ما كانوا يرجونه ، وأمنهم مما كانوا يخافونه . وإن كان رجاؤهم لما ينالون من كرامته دائما ، لكنه ليس رجاء مشوبا بشك . بل هو رجاء واثق بوعد صادق ، من حبيب قادر . فهذا لون ورجاؤهم في الدنيا لون .
وقال
ابن عطاء : الرضا سكون القلب إلى قديم اختيار الله للعبد أنه اختار له الأفضل . فيرضى به .
قلت : وهذا رضا بما منه . وأما الرضا به : فأعلى من هذا وأفضل . ففرق بين من هو راض بمحبوبه ، وبين من هو راض بما يناله من محبوبه من حظوظ نفسه . والله أعلم .
فَصْلُ مَنْزِلَةِ الرِّضَا
وَمِنْ مَنَازِلِ
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ nindex.php?page=treesubj&link=19626مَنْزِلَةُ الرِّضَا
وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبُّ ، مُؤَكَّدٌ اسْتِحْبَابُهُ . وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ .
[ ص: 170 ] وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ
ابْنَ تَيْمِيَةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ - يَحْكِيهِمَا عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِ
أَحْمَدَ . وَكَانَ يَذْهَبُ إِلَى الْقَوْلِ بِاسْتِحْبَابِهِ .
قَالَ : وَلَمْ يَجِئِ الْأَمْرُ بِهِ ، كَمَا جَاءَ الْأَمْرُ بِالصَّبْرِ . وَإِنَّمَا جَاءَ الثَّنَاءُ عَلَى أَصْحَابِهِ وَمَدْحِهِمْ .
قَالَ : وَأَمَّا مَا يُرْوَى مِنَ الْأَثَرِ : مَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى بَلَائِي ، وَلَمْ يَرْضَ بِقَضَائِي ، فَلْيَتَّخِذْ رَبًّا سِوَائِي . فَهَذَا أَثَرٌ إِسْرَائِيلِيٌّ ، لَيْسَ يَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قُلْتُ : وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُكْتَسَبَةٍ ، بَلْ هُوَ مَوْهِبَةٌ مَحْضَةٌ . فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِهِ . وَلَيْسَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ ؟
وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا أَرْبَابُ السُّلُوكِ عَلَى ثَلَاثِ طُرُقٍ
فَالْخُرَاسَانِيُّونَ قَالُوا :
nindex.php?page=treesubj&link=19626الرِّضَا مِنْ جُمْلَةِ الْمَقَامَاتِ . وَهُوَ نِهَايَةُ التَّوَكُّلِ . فَعَلَى هَذَا : يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَيْهِ الْعَبْدُ بِاكْتِسَابِهِ .
وَالْعِرَاقِيُّونَ قَالُوا : هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ . وَلَيْسَ كَسْبِيًّا لِلْعَبْدِ ، بَلْ هُوَ نَازِلَةٌ تَحِلُّ بِالْقَلْبِ كَسَائِرِ الْأَحْوَالِ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ : أَنَّ الْمَقَامَاتِ عِنْدَهُمْ مِنَ الْمَكَاسِبِ . وَالْأَحْوَالُ مُجَرَّدُ الْمَوَاهِبِ .
وَحَكَمَتْ فِرْقَةٌ ثَالِثَةٌ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ . مِنْهُمُ
الْقُشَيْرِيُّ - صَاحِبُ الرِّسَالَةِ - وَغَيْرُهُ ، فَقَالُوا : يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ، بِأَنْ يُقَالَ : بِدَايَةُ الرِّضَا مُكْتَسَبَةٌ لِلْعَبْدِ . وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقَامَاتِ . وَنِهَايَتُهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ . وَلَيْسَتْ مُكْتَسَبَةً . فَأَوَّلُهُ مَقَامٌ ، وَنِهَايَتُهُ حَالٌ .
وَاحْتَجَّ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقَامَاتِ : بِأَنَّ اللَّهَ مَدَحَ أَهْلَهُ ، وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ وَنَدَبَهُمْ إِلَيْهِ . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مَقْدُورٌ لَهُمْ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=980335ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا ، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا ، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا .
[ ص: 171 ] وَقَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980387مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ : رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا ، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا ، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا ، غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ .
وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ عَلَيْهِمَا مَدَارُ مَقَامَاتِ الدِّينِ ، وَإِلَيْهِمَا يَنْتَهِي . وَقَدْ تَضَمَّنَا الرِّضَا بِرُبُوبِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ وَأُلُوهِيَّتِهِ . وَالرِّضَا بِرَسُولِهِ ، وَالِانْقِيَادَ لَهُ . وَالرِّضَا بِدِينِهِ ، وَالتَّسْلِيمَ لَهُ ، وَمَنِ اجْتَمَعَتْ لَهُ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ : فَهُوَ الصِّدِّيقُ حَقًّا . وَهِيَ سَهْلَةٌ بِالدَّعْوَى وَاللِّسَانِ . وَهِيَ مِنْ أَصْعَبِ الْأُمُورِ عِنْدَ الْحَقِيقَةِ وَالِامْتِحَانِ . وَلَا سِيَّمَا إِذَا جَاءَ مَا يُخَالِفُ هَوَى النَّفْسِ وَمُرَادَهَا . مِنْ ذَلِكَ تَبَيَّنَ أَنَّ الرِّضَا كَانَ لِسَانُهُ بِهِ نَاطِقًا . فَهُوَ عَلَى لِسَانِهِ لَا عَلَى حَالِهِ .
فَالرِّضَا بِإِلَهِيَّتِهِ يَتَضَمَّنُ الرِّضَا بِمَحَبَّتِهِ وَحْدَهُ ، وَخَوْفَهُ ، وَرَجَائَهُ ، وَالْإِنَابَةَ إِلَيْهِ ، وَالتَّبَتُّلَ إِلَيْهِ ، وَانْجِذَابَ قُوَى الْإِرَادَةِ وَالْحُبِّ كُلِّهَا إِلَيْهِ . فَعَلَ الرَّاضِي بِمَحْبُوبِهِ كُلَّ الرِّضَا . وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ عِبَادَتَهُ وَالْإِخْلَاصَ لَهُ .
nindex.php?page=treesubj&link=19635_19627وَالرِّضَا بِرُبُوبِيَّتِهِ : يَتَضَمَّنُ الرِّضَا بِتَدْبِيرِهِ لِعَبْدِهِ . وَيَتَضَمَّنُ إِفْرَادَهُ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ . وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ ، وَالثِّقَةِ بِهِ ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ . وَأَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِكُلِّ مَا يَفْعَلُ بِهِ .
فَالْأَوَّلُ : يَتَضَمَّنُ رِضَاهُ بِمَا يُؤْمَرُ بِهِ . وَالثَّانِي : يَتَضَمَّنُ رِضَاهُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=19637الرِّضَا بِنَبِيِّهِ رَسُولًا : فَيَتَضَمَّنُ كَمَالَ الِانْقِيَادِ لَهُ . وَالتَّسْلِيمَ الْمُطْلَقَ إِلَيْهِ ، بِحَيْثُ يَكُونُ أَوْلَى بِهِ مِنْ نَفْسِهِ . فَلَا يَتَلَقَّى الْهُدَى إِلَّا مِنْ مَوَاقِعِ كَلِمَاتِهِ . وَلَا يُحَاكِمُ إِلَّا إِلَيْهِ . وَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ، وَلَا يَرْضَى بِحُكْمِ غَيْرِهِ أَلْبَتَّةَ . لَا فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْمَاءِ الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ . وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ أَذْوَاقِ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَمَقَامَاتِهِ . وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ . لَا يَرْضَى فِي ذَلِكَ بِحُكْمِ غَيْرِهِ . وَلَا يَرْضَى إِلَّا بِحُكْمِهِ . فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ كَانَ تَحْكِيمُهُ غَيْرَهُ مِنْ بَابِ غِذَاءِ الْمُضْطَرِّ إِذَا لَمْ يَجِدْ مَا يُقِيتُهُ إِلَّا مِنَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ . وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ : أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التُّرَابِ الَّذِي إِنَّمَا يُتَيَمَّمُ بِهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الطَّهُورِ .
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=19638الرِّضَا بِدِينِهِ : فَإِذَا قَالَ ، أَوْ حَكَمَ ، أَوْ أَمَرَ ، أَوْ نَهَى : رَضِيَ كُلَّ الرِّضَا . وَلَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِهِ حَرَجٌ مِنْ حُكْمِهِ . وَسَلَّمَ لَهُ تَسْلِيمًا . وَلَوْ كَانَ مُخَالِفًا لِمُرَادِ نَفْسِهِ أَوْ هَوَاهَا ، أَوْ قَوْلِ مُقَلِّدِهِ وَشَيْخِهِ وَطَائِفَتِهِ .
[ ص: 172 ] وَهَاهُنَا يُوحِشُكَ النَّاسُ كُلُّهُمْ إِلَّا الْغُرَبَاءَ فِي الْعَالَمِ . فَإِيَّاكَ أَنْ تَسْتَوْحِشَ مِنْ الِاغْتِرَابِ وَالتَّفَرُّدِ . فَإِنَّهُ وَاللَّهِ عَيْنُ الْعِزَّةِ ، وَالصُّحْبَةِ مَعَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَرُوحُ الْأُنْسِ بِهِ . وَالرِّضَا بِهِ رَبًّا ،
وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا .
بَلِ الصَّادِقُ كُلَّمَا وَجَدَ مَسَّ الِاغْتِرَابَ ، وَذَاقَ حَلَاوَتَهُ ، وَتَنَسَّمَ رُوحَهُ . قَالَ : اللَّهُمَّ زِدْنِي اغْتِرَابًا ، وَوَحْشَةً مِنَ الْعَالَمِ ، وَأُنْسًا بِكَ . وَكُلَّمَا ذَاقَ حَلَاوَةَ هَذَا الِاغْتِرَابِ ، وَهَذَا التَّفَرُّدِ : رَأَى الْوَحْشَةَ عَيْنَ الْأُنْسِ بِالنَّاسِ ، وَالذُّلَّ عَيْنَ الْعِزِّ بِهِمْ . وَالْجَهْلَ عَيْنَ الْوُقُوفِ مَعَ آرَائِهِمْ وَزُبَالَةِ أَذْهَانِهِمْ ، وَالِانْقِطَاعَ عَيْنَ التَّقَيُّدِ بِرُسُومِهِمْ وَأَوْضَاعِهِمْ . فَلَمْ يُؤْثِرْ بِنَصِيبِهِ مِنَ اللَّهِ أَحَدًا مِنَ الْخَلْقِ . وَلَمْ يَبِعْ حَظَّهُ مِنَ اللَّهِ بِمُوَافَقَتِهِمْ فِيمَا لَا يُجْدِي عَلَيْهِ إِلَّا الْحِرْمَانَ . وَغَايَتُهُ : مَوَدَّةُ بَيْنِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا . فَإِذَا انْقَطَعَتِ الْأَسْبَابُ . وَحَقَّتِ الْحَقَائِقُ ، وَبُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ ، وَبُلِيَتِ السَّرَائِرُ ، وَلَمْ يَجِدْ مِنْ دُونِ مَوْلَاهُ الْحَقِّ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ : تَبَيَّنَ لَهُ حِينَئِذٍ مَوَاقِعُ الرِّبْحِ وَالْخُسْرَانِ . وَمَا الَّذِي يَخِفُّ أَوْ يَرْجَحُ بِهِ الْمِيزَانُ . وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ .
وَالتَّحْقِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19625الرِّضَا كَسْبِيٌّ بِاعْتِبَارِ سَبَبِهِ ، مُوهَبِيٌّ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَتِهِ . فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِالْكَسْبِ لِأَسْبَابِهِ . فَإِذَا تَمَكَّنَ فِي أَسْبَابِهِ وَغَرَسَ شَجَرَتَهُ : اجْتَنَى مِنْهَا ثَمَرَةَ الرِّضَا . فَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19626الرِّضَا آخِرُ التَّوَكُّلِ . فَمَنْ رَسَّخَ قَدَمَهُ فِي التَّوَكُّلِ وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّفْوِيضِ : حَصَلَ لَهُ الرِّضَا وَلَا بُدَّ . وَلَكِنْ لِعِزَّتِهِ وَعَدَمِ إِجَابَةِ أَكْثَرِ النُّفُوسِ لَهُ ، وَصُعُوبَتِهِ عَلَيْهَا - لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ عَلَى خَلْقِهِ . رَحْمَةً بِهِمْ ، وَتَخْفِيفًا عَنْهُمْ . لَكِنْ نَدْبَهُمْ إِلَيْهِ . وَأَثْنَى عَلَى أَهْلِهِ ، وَأَخْبَرَ أَنَّ ثَوَابَهُ رِضَاهُ عَنْهُمْ ، الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ وَأَجَلُّ مِنَ الْجِنَانِ وَمَا فِيهَا . فَمَنْ رَضِيَ عَنْ رَبِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . بَلْ رِضَا الْعَبْدِ عَنِ اللَّهِ مِنْ نَتَائِجِ رِضَا اللَّهِ عَنْهُ . فَهُوَ مَحْفُوفٌ بِنَوْعَيْنِ مِنْ رِضَاهُ عَنْ عَبْدِهِ : رِضًا قَبْلَهُ ، أَوْجَبَ لَهُ أَنْ يَرْضَى عَنْهُ ، وَرِضًا بَعْدَهُ . هُوَ ثَمَرَةُ رِضَاهُ عَنْهُ . وَلِذَلِكَ كَانَ الرِّضَا بَابَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ ، وَجَنَّةَ الدُّنْيَا ، وَمُسْتَرَاحَ الْعَارِفِينَ ، وَحَيَاةَ الْمُحِبِّينَ ، وَنَعِيمَ الْعَابِدِينَ ، وَقُرَّةَ عُيُونِ الْمُشْتَاقِينَ .
وَمِنْ أَعْظَمِ
nindex.php?page=treesubj&link=19635_19638أَسْبَابِ حُصُولِ الرِّضَا : أَنْ يَلْزَمَ مَا جَعَلَ اللَّهُ رِضَاهُ فِيهِ . فَإِنَّهُ يُوصِلُهُ إِلَى مَقَامِ الرِّضَا وَلَا بُدَّ .
قِيلَ
nindex.php?page=showalam&ids=17335لِيَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ : مَتَى يَبْلُغُ الْعَبْدُ إِلَى مَقَامِ الرِّضَا ؟ فَقَالَ : إِذَا أَقَامَ نَفْسَهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أُصُولٍ فِيمَا يُعَامِلُ بِهِ رَبَّهُ ، فَيَقُولُ : إِنْ أَعْطَيْتَنِي قَبِلْتُ . وَإِنْ مَنَعْتَنِي رَضِيتُ . وَإِنْ تَرَكْتَنِي عَبَدْتُ . وَإِنْ دَعَوْتَنِي أَجَبْتُ .
وَقَالَ
الْجُنَيْدُ : الرِّضَا هُوَ صِحَّةُ الْعِلْمِ الْوَاصِلِ إِلَى الْقَلْبِ . فَإِذَا بَاشَرَ الْقَلْبَ
[ ص: 173 ] حَقِيقَةُ الْعِلْمِ أَدَّاهُ إِلَى الرِّضَا .
وَلَيْسَ الرِّضَا وَالْمَحَبَّةُ كَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ . فَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19626_28683الرِّضَا وَالْمَحَبَّةَ حَالَانِ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ . لَا يُفَارِقَانِ الْمُتَلَبِّسَ بِهِمَا فِي الدُّنْيَا ، وَلَا فِي الْبَرْزَخِ ، وَلَا فِي الْآخِرَةِ . بِخِلَافِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ . فَإِنَّهُمَا يُفَارِقَانِ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِحُصُولِ مَا كَانُوا يَرْجُونَهُ ، وَأَمْنِهِمْ مِمَّا كَانُوا يَخَافُونَهُ . وَإِنْ كَانَ رَجَاؤُهُمْ لِمَا يَنَالُونَ مِنْ كَرَامَتِهِ دَائِمًا ، لَكِنَّهُ لَيْسَ رَجَاءً مَشُوبًا بِشَكٍّ . بَلْ هُوَ رَجَاءٌ وَاثِقٌ بِوَعْدٍ صَادِقٍ ، مِنْ حَبِيبٍ قَادِرٍ . فَهَذَا لَوْنٌ وَرَجَاؤُهُمْ فِي الدُّنْيَا لَوْنٌ .
وَقَالَ
ابْنُ عَطَاءٍ : الرِّضَا سُكُونُ الْقَلْبِ إِلَى قَدِيمِ اخْتِيَارِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ أَنَّهُ اخْتَارَ لَهُ الْأَفْضَلَ . فَيَرْضَى بِهِ .
قُلْتُ : وَهَذَا رِضًا بِمَا مِنْهُ . وَأَمَّا الرِّضَا بِهِ : فَأَعْلَى مِنْ هَذَا وَأَفْضَلُ . فَفَرْقٌ بَيْنَ مَنْ هُوَ رَاضٍ بِمَحْبُوبِهِ ، وَبَيْنَ مَنْ هُوَ رَاضٍ بِمَا يَنَالُهُ مِنْ مَحْبُوبِهِ مِنْ حُظُوظِ نَفْسِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .